ŷ

Jump to ratings and reviews
Rate this book

إمبراطوريات متخيلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر

Rate this book
تناول هذا الكتاب موضوعا عز تناوله فى الكتابات التاريخية المصرية، سواء المكتوبة بالعربية أو بأى لغة أجنبية أخرى. تجادل أستاذة التاريخ فى جامعة أوبرلين الأمريكية، بأن للصعيد رواية جد مختلفة مع كل الإمبراطوريات التى تعاقبت على غزو مصر، رسمية وغير رسمية، منذ القرن السادس عشر(العثمانيون والفرنسيون وإمبراطورية محمد على ثم الهيمنة البريطانية غير الرسمية وأخيرا الاحتلال البريطانى الرسمى منذ عام 1882). وتمضى فى محاولة لإعادة سرد التاريخ البديل الذى يقدمه الصعيد، من خلال التنقيب فى مئات الوثائق منذ القرن السادس عشر: كالمكاتبات الرسمية وقضايا المحاكم الشرعية وسجلات مضابط الأحكام. تكشف قراءة المؤلفة لهذه الوثائق أن الإمبراطوريات الاستعمارية التى ارتحلت إلى جنوب مصر عمدت إلى تهميشه بشتى الطرق، ودعمت تلك الإمبراطوريات فكرة أن مصر دولة موحدة، ومن ثم ينبغى إخضاع الصعيد بالقوة تحت سيطرة النخبة الشمالية المتنعمة برضاها. أسفرت تلك السياسات عن تدمير متلاحق لمجتمعات الصعيد، فجرى إهمال الزراعة والرى، وتعددت الأزمات البيئية كتفشي أوبئة الطاعون والكوليرا.

369 pages, Unknown Binding

First published January 1, 2013

8 people are currently reading
313 people want to read

About the author

Zeinab Abul-Magd

4books28followers

Georgetown University, Department of History, Washington, DC PhD, July 2008 (focusing on socio-economic history)
American University in Cairo, Egypt
Research Fellow at Economic and Business History Research Center; Summer 2005 - Fall 2006

Georgetown University, Center for Contemporary Arab Studies, Washington, DC MA in Arab Studies, Thesis in Islamic Law, May 2003

Cairo University, Faculty of Economics and Political Science, Cairo, Egypt

MA in Political Science candidate, 1997-2001

Cairo University, Faculty of Economics and Political Science, Cairo, Egypt

B.S. in Political Science, 1992-1996




Ratings & Reviews

What do you think?
Rate this book

Friends & Following

Create a free account to discover what your friends think of this book!

Community Reviews

5 stars
13 (24%)
4 stars
21 (38%)
3 stars
16 (29%)
2 stars
3 (5%)
1 star
1 (1%)
Displaying 1 - 15 of 15 reviews
Profile Image for محمد.
Author2 books1,027 followers
May 11, 2018
أول كتاب أقرؤه يتخذ من مكان بعينه في مصر حيزا لدراسة تاريخية تمتد بضعة عقود ويكون هذا المكان بعيد عن العاصمة. حاولت الكاتبة استخدام مناهج تحليل ما بعد الكولونيالية ومدرسة دراسات التابع. اعتمدت الكاتبة على مصادر متعددة من مراجع وكتب رحلات وسجلات المحاكم لترسم لنا صورة قنا من حكم الدولة العثمانية حتى الوقت الحاضر. لكن هذا الجهد البحثي في النهاية تم إفساده في مواضع عديدة بسبب النبرة النضالية الفجة والتعبيرات الإنشائية التي لا تستقيم ولغة البحث الأكاديمي.
رسمت الكاتبة صورة لصعيد فقير ومريض ومهمش في مواجهة شمال غني وبرجوازية مسيطرة، لكنها لم تحدثنا عن ماهية الأطراف الغنية أصلا في الشمال، وما هو الفرق بين فلاحين الدلتا الذين أجبرتهم الحكومة على زراعة القطن وفلاحين الصعيد الذين أجبروا على زراعة قصب السكر.
وسط التكرار الدائم للكاتبة على الشمال الغني والجنوب الفقير لم نر مقارنة إلا مع القاهرة والتي بالتأكيد ستكون كل المقارنات في صالحها، فل تقارن بين حقيقة الأوضاع في أرياف الشمال في حياة الفلاحين البسطاء تحت الإمبراطوريات التي غطاها الكتاب، مما أعطى صورة مختزلة عن دلتا غنية ومستقرة ومحظية من السلطة بأعيانها وفلاحيها.
وكيف يمكن المساواة بين الدولة العثمانية وبين الإمبراطورية البريطانية بوصف كليهما بالإمبريالية مع اختلاف السياقات والأدوات والتسوية بين دولة قديمة تقليدية تمارس هامشا محودا من السلطة اعتمادا على مجموعة من الأعيان والوسائط المحلية، بأخرى متقدمة حديثة تغلغلت إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، اللهم إلا إذا كانت الإمبريالية هي محض الظلم والتعسف والجور على الأهالي، فكل دولة هي إمبريالية بهذا المعنى.
كذلك التعسف في التأكيد على استنتاجات عريضة من حيث الانفصال الوجداني لأهالي قنا وفلاحيها عن مصر وتستدل على ذلك بصراع بين قبيلة مؤيدة لمكرم عبيد زعيم حزب الوفد في 49 وبين قبيلة أخرى مؤيدة لمرشح منافس، ودللت أن هذا يعني رفض أهالي قنا للأساطير الوطنية التي يصدرها برجوازية القاهرة!
يعني صراع قبلي معتاد في الانتخابات مازال مستمرا لليوم يتم تحميله كل هذا الدلالات المتعسفة لإرضاء الحالة النضالية المفتعلة والتشنج الذي فرضته الكاتبة من أول صفحة وحتى آخر صفحة! ناهيك عن أن مكرم عبيد انشق عن الوفد قبل هذا التاريخ ببضع سنوات وهو ما يشككنا في كثير من الاستنتاجات والإطلاقات التي شحنتها الكاتبة طوال الكتاب وعرضه بنبرة نضالية. هذه النبرة للأسف أفسدت كثيرا من المادة المتميزة للكتاب والبحث الثري الواضح من تفاصيل الصراع السياسي والحياة اليومية والتي عرضتها الكاتبة بأسلوب سلس وترتيب منطقي وواضح.
Profile Image for Baher Soliman.
479 reviews444 followers
October 23, 2018
يُخيّل إليّ أن الأستاذة " زينب أبو المجد" متأثرة في هذا العنوان بأطروحة بندكت أندرسون عن الجماعات المتخيلة ، وهى على كل حال أشارت إليه عندما استشهدت بقوله عن فكرة خلق الأساطير القومية في ظل الهيمنة الاستعمارية ، وهذا الكتاب - أعنى كتاب إمبراطويات متخيلة - هو رسالة دكتوراه مقدمة إلى جامعة جورج تاون الأمريكية .

ترى الباحثة أن للصعيد تاريخ موازي للتاريخ الرسمي المُسجّل ، وأن فكرة إخضاع الصعيد للهيمنة الإمبريالية الممثلة في الدولة العثمانية حينًا - التي هي إمبراطورية متخيلة في الصعيد بلا أي وجود حقيقي - وفي ممثليهم باكوات المماليك في الشمال حينًا آخر، ثم بعد ذلك محمد على وأبناءه ثم الاستعمار البريطاني = كل ذلك أدي إلى تهميش الصعيد؛ مما أجج في فترات حالات للثورة كالتي قامت على محمد على والخديوي إسماعيل ، أو أعمال سلب ونهب كالتي قام بها من أطلقت عليهم السجلات الرسمية إسم " مطاريد الجبل".

يُلاحظ في هذا الكتاب أن الباحثة تعتمد على فكرة " ما بعد الكولونيالية" في تحليلها ورصدها لتاريخ الصعيد ، وهي فكرة تفكيكية للخطاب الرسمي الذي تقدمه مؤسسات الاستعمار عن نفسها ، وهي فكرة استعملها من قبل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق ، و فرانز فانون في معذبو الأرض ، حيث تم تفكيك خطاب التمركز الأوروبي حول الذات .

مراجع الباحثة في هذا الكتاب لتفكيك الرؤية الشائعة عن الصعيد في الكتابات الرسمية ، هي مجموعة من السجلات المحفوظة بدار الوثائق القومية بمصر " تحمل أصوات المهمشين في أقصى الجنوب " ، وكذا وثائق باللغة الإنجليزية من الأرشيف الوطني البريطاني ، وكذا كتابات الرحالة الأوروبيين .

تُحلل في بداية الكتاب الباحثة ما أسمته ب " نظام الدولتين " الذي بدأ مع دخول السلطان سليم إلى مصر ، وهو ما تصفه الباحثة بالغزو ( يُلاحظ موقف الكتاب السيء من الدولة العثمانية ) ، هذا النظام عبارة عن نخبة عسكرية من المماليك حاكمة في الشمال ، ونخبة قبلية ( كالهوارة) حاكمة في الجنوب ، هذا الأمر ولّد الصراع بين المماليك في الشمال والهوارة في الجنوب ، لاسيما بعد النفوذ الكبير للهوارة وتحكمهم في الغلال ، ومن هنا كان " تصدير" أو " منع" الغلال لحكام الشمال لعبة سياسية ينتهجها الهوارة ، حتى أنهم في بعض الفترات سببوا مجاعات حقيقية في القاهرة .

كان الهوارة في الجنوب- في سبيل الحفاظ على مكتسباتهم -يلعبون سياسة مع المماليك ، فحينًا يستغلون الصراع بين جناحي المماليك الفقارية والقاسمية ، وإيواء المماليك الفارين من حكام الشمال ، وكذا التحكم في قوت القاهرة حتى تسببوا في أزمة اقتصادية طاحنة ، مما دفع السلطان العثماني مصطفى خان الثاني بإرسال جيش مملوكي إلى الصعيد ؛ مما أدى لسحق الهوارة ، حتى استعاد الصعيد نفوذه مرة أخرى مع شيخ العرب همام .

أنشأ شيخ العرب همام دولة حقيقية استمرت لمدة ٤٠ عام ، وقد احتكر معظم تجارة الصعيد ، ولعب نفس اللعبة السياسية التي لعبها أسلافه ؛مما قضى على دولته على يد على بك الكبير .

كان للأقباط وضع متميز في الجنوب ؛ حيث عملوا كمحاسبين للهوارة الذين كانت بيدهم مساحات لا حصر لها من الأراضي ، بل عندما احتل الفرنسيون الصعيد بداوا في تعيين المباشرين الأقباط منذ ١٧٩٩ .[ كانت العلاقات بين الأقباط والفرنسيين ممتازة ] .

عندما وصل محمد على لسدة الحكم ، اندلعت بين عام ١٧٢٠- ١٨٢٤ تمردات في الصعيد ، لقد حشد رجل يدعى الشيخ " أحمد " أربعين ألفًا من المؤيدين له ، زاعمًا أنه المهدي المنتظر ، واستولى على خزينة المديرية وأشوان الغلال فيها . أرسل الباشا تجريدة بقيادة أحمد عثمان بك الذي قام بإبادة المتمردين بلا رحمة ( راجع هذه الفظائع ص ١٨٧ ) ، ومن ثم خلصت غلال الصعيد للباشا وجعلته أكثر ثراءً ، مع تطبيق نظام القهر والذل من قِبل الباشا وابنه الغشوم إبراهيم على أهل الصعيد .

يوضح لنا الكتاب بعد ذلك كيف استباح محمد على الصعيد هو وحاشيته من الأتراك ، فمع توطين الأتراك في الصعيد كسادة، وتحت يدهم العديد من مشايخ القرى كجباة ، ومع الضرائب الباهظة ، ومع سحق حركات التمرد القليلة ، كانت المقاومة خيار فردي ، تمثلت في امتناع البعض عن دفع الضرائب ، أو هروب الفلاحين لتجنب العمل القسري في المزارع أو فابريقات - مصانع- الباشا ، أو في الهروب إلى الجبال - مطاريد الجبل- وتكوين عصابات للسلب والنهب كحال هريدي الرجيل الذي أقض مضجع الحكومة في قنا .

يختم الكتاب سرده التاريخي بالكلام عن ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ ، ودور قنا فيها ، وبشكل عام يمكن القول أن الكتاب يبحث وسط ركام الوثائق عن السبب في تهميش الصعيد ، ولاشك أنها رحلة ممتعة مع هذا الكتاب ، تاريخية واقتصادية وسياسية ، مع بعض الملاحظات الشكلية ، لكن بالنهاية كتاب جيد، ويعتبر امتدادًا لمدرسة فوكو في البحث عن العلاقة بين السلطة والمعرفة .
Profile Image for Mohamed.
892 reviews886 followers
February 3, 2018


هذا الكتاب أسطورة بحق وأتمني أن استطيع كتابة الكثير هنا فيما بعد
Profile Image for أحمد عبد الفتاح.
55 reviews64 followers
August 27, 2021
ترتبط صورة الصعيد في أذهاننا بالنفي والإقصاء، فهو مكان بعيدٌ عن القاهرة "الحديثة" يعجُّ بالأمراض المستوطنة، وتمتلئ رؤوس أهله بالخرافات والتقاليد البالية، ويقضي العُرف الحكومي أن النقل إليه عقابٌ هائل، وأن الخروج منه غنيمة يحوزها الواصلون وأبناء الكبار. تقول زينب أبو المجد مؤلفة كتاب: "إمبراطوريات متخيَّلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر" أن هذه الصورة نتجت عن تركيز نصوص السردية التاريخية الوطنية -التي كُتبت باستخدام اقترابات نظرية قومية ونخبوية- على مجتمع القاهرة والوجه البحري، وإقصائها الصعيد من متونها. وجعلها من حكايات الطبقات الدنيا في مكان مثل قنا، هوامش ليس لذكرها أهمية في الرواية الأكبر للدولة القومية في مصر.
ومن خلال تتبعها لتاريخ صعيد مصر –قن� تحديدًا- خلال خمسة قرون تطرح أبو المجد أسئلة وعلامات استفهام ضخمة حول هذه السردية، وتلك الصورة المرتبطة بالصعيد في أذهاننا، مسلِّطة الضوء على تاريخيتها، وقِصر عمرها حيث لم تكن هذه صورة الصعيد قبل مائتي عام فقط. ومن خلال استخدامها لاقترابات نظرية متعدِّدة مثل: "الماركسية"، و"مدرسة التبعية"، و"المنظومة العالمية"، و"ما بعد الكولونيالية" تحاكم أبو المجد رؤى الحداثة والإمبراطورية عن نفسها، وتبيِّن قِصر نظر هذه الرؤى، وتفسِّر أسباب فشل حكم خمسة إمبراطوريات كبرى هبطت قنا خلال خمسة قرون وهي: "الدولة العثمانية (1500-1800)، والحملة الفرنسية (1798-1801)، ودولة محمد علي باشا (1805 � 1848)، ثم الاحتلال البريطاني غير الرسمي لمصر (1848-1882)، وأخيرًا الاحتلال البريطاني المباشر (1882-1954).
إمبراطوريات متخيَّلة أم هويَّات محلية متخيلة
بسهولة وسلاسة يصل لقارئ الكتاب ما يشبه النموذج التفسيري الأساسي لتاريخ الصعيد خلال الخمسة قرون المنقضية الذي يتغيَّا الكتاب تقديمه، وقد أبانت عنه المؤلفة في المقدمة والفصل الأول المعنون بـ: قيام "جمهورية" شيخ العرب همَّام وانهيارها (1500-1800). فالصعيد يكون بخير دائمًا طالما حكمه أهله، ونأى بنفسه عن حكم الإمبراطورية سواء كانت إمبراطورية قبل حديثة أو حديثة. فلم تجلب الإمبراطورية معها للصعيد سوى البطش وسوء الإدارة والكوارث البيئية والأوبئة القاتلة. بينما نَعِمَ الصعيد تحت حكم أبناءه من العرب الهوارة بالأمن والاستقرار والثراء الكبير والهدوء السياسي. وإذا كان ذلك هو هيكل الصورة الرئيسية التي يتغيَّا الكتاب توصيلها لقارئه، فلا يتبقى بعد ذلك سوى ملئها بالتفاصيل والأحداث التاريخية التي تعضدها وتزيد وضوحها بما لا يدع مجالاً للشك في صحتها.
توجِّه المؤلفة في الفصل الأول ضربات قوية للسردية الوطنية الحديثة التي تصور مصر "الحالية" بوصفها دولة موحدة من الأبد إلى الأبد، فمن أواخر القرن الرابع عشر (1380) إلى أواخر القرن الثامن عشر (1769) –باستثنا� فترات بسيطة سيطر فيها العثمانيون ونوابهم من المماليك في القاهرة على الصعيد سيطرة مباشرة- حُكم الصعيد بصورة شبه مستقلة من قِبل قبيلة الهوَّارة بعد معارك شرسة مع المماليك. وحينما دخل السلطان سليم الأول مصر لم يغزُ الصعيد، ورضي من الهوَّارة بالولاء الإسمي ودفع الخراج السنوي والعطايا الجزيلة التي ترسلها القبيلة للباب العالي في اسطنبول. وفي المقابل عيَّن السلطان بعض فلول المماليك الموالين له ليسيطروا على القاهرة والوجه البحري تحت إشراف باشا تعيِّنه اسطنبول. وهكذا ظلت مصر طوال ما يقرب من أربعة قرون مقسَّمة إلى قسمين: شمالي وتحكمه الإمبراطورية العثمانية عن طريق المماليك، وهو ملتزم في أحواله ومعاملاته بأوامر وفرمانات السلطان، ومحاكمه الشرعية جزء من بيروقراطية الحكم، ومذهبه حنفي كمذهب الدولة الرسمي. وجنوبي تحكمه الهوَّارة ولا تتُلى فيه أوامر السلطان وفرماناته ومحاكمه مستقلة، ومذهبه مالكي. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالصورة التي يقدِّمها الكتاب للصعيد –قن� تحديدًا- في هذا العصر جدُّ مختلفة عما اعتدنا عليه في ثقافتنا المعاصرة، وعمَّا اعتاد نقَّاد الإمبريالية بمختلف مدارسهم تقديمه عن العلاقة بين المراكز الإمبراطورية وهوامشها. وتطرح المؤلِّفة في الفصل الأول فرضية مثيرة مفادها أن الدولة العثمانية كانت إمبراطورية "متخيَّلة" في صعيد مصر، إمبراطوية لم تكن تحكم هامشها، بل كانت علاقة المركز والهامش في جنوب مصر في تلك الحالة معكوسة، حيث اعتمد "المركز" الاستهلاكي على "الهامش" الرأسمالي المنتج. وتدلل عليها من خلال رسم تلك الصورة المغايرة لقنا في عصور ما قبل الحداثة، فهي مدينة حافلة بالأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنديين وتجار أرض الحبشة. ويعود السبب في ذيوع شهرة منطقة قنا في ذلك الزمن إلى موقعها المحوري في قلب ما أطلق عليه العديد من مؤلِّفي تاريخ العالم اسم: "الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي"، وهو شبكة التجارة الدولية التي ربطت بين موانئ البحر الأحمر والجزيرة العربية، والمحيط الهندي الشاسع من خلفهم، وكانت هي المحرك الديناميكي لتجارة العالم القديم بين آسيا وأفريقيا. حكمت تلك المنطقة الاقتصاد العالمي لقرون، قبل ظهور المنظومة الرأسمالية الأوروبية الحديثة التي أزاحتها وحلَّت محلَّها في القرن التاسعَ عشَر. ويعتمد المركز الإمبراطوري عليها في إمداده بالسلع الأساسية كالقمح والغلال والسكر، بل يعتمد عليها كذلك في الحفاظ على صورته وهيبته كخليفة للمسلمين من خلال إرسالها للحبوب والغلال إلى حجَّاج بيت الله الحرام في الأراضي المقدسة على الجانب الآخر من البحر الأحمر.
وقد بلغ حكم الهوَّارة في الصعيد ذروته مع شيخ العرب همَّام، ذلك الأمير الذي أسَّس حكمًا عادلاً يشبه "الجمهورية" في صعيد مصر خلال أربعين عامًا في منتصف القرن الثامن عشر، حتى خانه ذكاءه وتحالف مع الأمير المملوك علي بك الكبير في سبيل الاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية، فلما تحقَّق لعلي بك الكبير ما أراد في أول الأمر انقلب على حليفه همَّام ورشى أحد أبناء عمومته لينسحب من صفوف جيشه ويقاتل ضمن صفوف المماليك، فهُزم جيش همَّام ومات مكمودًا مقهورًا عام 1769. وكانت تلك أخر مرة حُكم فيها الصعيد بأبنائه شبه مستقل عن القاهرة، حيث حكمه المماليك ثم العثمانيون مباشرة بعدما هزموا علي بك الكبير ثم جاءت الحملة الفرنسية.
إمبراطوريتان أجنبيتان، و"استعمار" محلي
إذا كان سقوط دولة شيخ العرب همَّام إيذانًا بغروب شمس الصعيد شبه المستقل، فقد تظاهرت عدة عوامل على إفقاد الصعيد مكانته المتميزة التي اكتسبها طيلة الحقبة العثمانية منها ماهو داخلي مثل عودة الإمبراطورية لحكمه مباشرة من القاهرة سواء كان الحكام ضباطًا مماليك أو فرنسيين أو موظفين في دولة محمد علي البازغة. ومنها ما هو خارجي كخسوف نظام "الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي" -الذي كانت قنا أحد مراكزه البارزة- وتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط خدمة للرأسماليات الصاعدة في غرب أوروبا كارثة أخرى حلَّت بالصعيد، لكن أكبر أذى لحق به جاء مع غزو محمد علي له واحتكاره لثرواته.
تروي الفصول من الثاني إلى الخامس قصة مأساوية حزينة للصعيد تحت حكم الفرنسيين ودولة محمد علي ثم الإنجليز. وتقدم هذه الفصول سردية بديلة للسردية القومية التقليدية التي تجعل من قدوم الحملة الفرنسية بداية لما تسميه "عصر النهضة"، وتصف محمد علي باشا بباني مصر الحديثة وصاحب الفضل في نهضتها.
تستعرض أبو المجد في الفصل الثاني أشكال العلاقة بين الفرنسيين وفئات المجتمع الصعيدي من فلاحين وأقباط وعربان، وهم من تعاونوا مع الفرنسيين بعض الوقت وقاتلوهم أكثر الوقت. ويلحظ قارئ الكتاب بسهولة أنه شتَّان بين وضع أهالي الصعيد إبان الحملة الفرنسية، وبين وضعهم مع قدوم الإمبراطورية البريطانية. فقد تعاملوا مع الحملة الفرنسية كندٍّ غالبًا، وخادعوا الفرنسيين وحاولوا استغلالهم للتخلص من مظالم حكم المماليك ولكن لم يسمحوا لهم بالتدخل في شئون الحكم الفعلية. وتعتمد أبو المجد على ثروتها من الوثائق والمصادر الأصلية لتسليط الضوء في هذه السردية البديلة على أشكال المقاومة التي أبداها الصعيد لمظالم دولة محمد علي وخلفاءه وكانت محطَّاتها الرئيسية ثورتان قام بهما الصعيد عامي 1824، و1864 وقمعتهما –بضراو�- ما تسميه المؤلفة "الإمبريالية" الوطنية. ولم تتوقف أشكال المقاومة على الثورة المباشرة والتمردات الصغيرة، بل تعدَّتها إلى الهروب من القرى والتسحُّب من أداء الخدمة العسكرية، وأعمال السخرة، وصولاً إلى تشكيل العصابات التي اختصت بالاعتداء على التجار الأجانب وموظفي الحكومة وسلبهم أموالهم وثرواتهم.
وتستعرض أبو المجد في هذا الفصل قصة الثورة الأولى ضد حكم محمد علي والتي انطلقت من قنا بقيادة رجل اسمه أحمد الطيب ادَّعى الولاية وقاد جموع الفلاحين للثورة ضد جلاديهم. وفي الفصل الرابع حاولت أبو المجد إظهار الهوة الكبيرة بين مثُل الخطاب الليبرالي للإمبراطورية البريطانية، ونتائج تدخلها على أرض الواقع من خلال رصدها لبدايات الوجود البريطاني غير الرسمي في صعيد مصر. ويعجُّ الفصل بسرد مظاهر ذلك التدخل والآثار التي خلَّفها "تحرير التجارة" على أهالي قنا. ومنها أن التوسع في تصدير الغلال إلى أوروبا أدى إلى تحمل الأهالي عواقب وخيمة كحدوث نقص حاد في الغذاء، وارتفاع أسعاره بشكل جنوني. ومنها كذلك أن نشأة الملكية الخاصة في مصر لم تعنِ نشوء طبقة برجوازية وطنية، بقدر ما خدمت مصالح النخبة الحاكمة وسهَّلت احتكارها لموارد الثروة والسلطة. وتستكمل أبو المجد في الفصل الخامس استعراض نتائج التدخل الإمبريالي البريطاني في الصعيد مستخدمة الإطار النظري الذي قدَّمه بندكت أندرسون حول تلاقي المصالح بين الإمبريالية الرأسمالية والنخب المحلية لخلق هوية وطنية موحدة عن طريق توحيد الأسواق المحلية. وتركز أبو المجد في هذا الفصل على الفوارق التي ظهرت في تعامل الإمبراطورية البريطانية والنخب المحلية مع الدلتا والقاهرة وبين تعاملها مع الصعيد النائي. فقد شكَّل تركز زراعة القطن في الدلتا طبقة حاكمة جديدة من المصريين والأتراك، وهو مالم يحدث في الجنوب. وتدلل أبو المجد على هذه الفوارق من خلال تشكيل مجلس شورى النواب والقضايا التي ناقشها وتركيزه على المشاريع والخدمات في القاهرة والوجه البحري وتجاهله للصعيد.

ملاحظات واستدراكات
يستمد كتاب إمبراطوريات متخيلة أهميته من ندرة ما كُتب في موضوعه، ومن جدية مؤلفته وحماستها لموضوع دراستها، ولا شك أن إعادة سرد التاريخ بما يمكِّنه من تمثيل أصوات أكبر عدد من فئاته وصانعيه يعدُّ هدفًا جليلاً، لكن لا يمكننا ونحن في ختام هذه المراجعة ألا نلفت النظر إلى بعض المشاكل التي قد تواجه قارئ هذا الكتاب. وأولها عدم ضبط دلالة مصطلح "الإمبراطورية/الإمبريالية". فالمؤلفة تستعمل هذين المصطلحين بدلالتين متقاربتين، وهي تؤكد استلهامها للإطار النظري الذي قعَّدت له مدرستي التبعية والمنظومة العالمية الذي ينظر إلى المركز الإمبريالي بوصفه محتكرًا للإنتاج الرأسمالي، بينما يحول الأطراف إلى مجرد منتجين للمواد الخام ومستهلكين لمنتجاته. يظهر الإشكال حينما تحاول استعمال هذا الإطار في حالة الصعيد في مصر العثمانية، وتصف اسطنبول بالمركز الإمبريالي. مع تأكيدها على انعكاس العلاقة بين الطرفين عما هي في الإطار النظري الذي تستعمله، واختلاف طرائق الحكم والسيطرة في إمبراطوريات ما قبل الحداثة عنها في الإمبراطوريات الحديثة. ويتحيَّر القارئ حين يصل إلى هذه النتيجة، فما هي دلالة "الإمبريالية" بالضبط في هذه الحالة؟
ومن الأمور اللافتة في الكتاب التأكيد المبالغ فيه على اختلاف الأحوال بين فلاحي الدلتا وفلاحي الصعيد في الحقبة الاستعمارية البريطانية الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يخالف ما ورد في مصادر أخرى، حيث يؤكد كينيث كونو، على سبيل المثال، أن فلاحي الدلتا قد عانوا مما عانى منه فلاحو الصعيد بداية من 1817 من أعمال السخرة في حفر الترع والمصارف، والتجنيد الإجباري. كما أن بعض الثورات قد قامت في الدلتا بالتوازي مع الثورة الصعيدية الأولى كذلك –المنوفي� تحديدًا- ثورة ضد السخرة والتجنيد الإجباري. وغاية ما يمكن قوله في هذا الإطار أنه من سوء حظ الصعيد أنه لم يكن لديه ما يقدمه في أواخر القرن التاسع عشر لخدمة الدور الذي ارتأته الإمبريالية البريطانية لمصر بوصفها مزرعة للقطن ومستهلكة لمنتجاتها، فتم تهميشه لحساب الشمال. ولكن هذا التفضيل النسبي للشمال لم ينعكس على أحوال فلاحيه بقدر ما انعكس على أحوال نخبته.
ومن الملاحظات اللافتة كذلك تمحُّل المؤلفة الأدلة لإثبات وجود انفصال تام بين القاهرة والصعيد على مستوى القناعة بالسردية الوطنية "البرجوازية"، إلى درجة ذكرها لمعلومة خاطئة وهي تمثيل مكرم عبيد باشا للوفد أثناء زيارة انتخابية لقنا عام 1949، وهجوم الأهالي عليه لحساب مرشح أخر. ومن المعلوم أن مكرم عبيد قد انشق عن الوفد منذ عام 1942 أثناء خلافه الشهير مع مصطفى النحاس باشا. ولعل هذا يعني أنه يمكن تفسير تلك الحادثة –م� حيث المبدأ- لصالح قناعة أهالي قنا بالوفد وما يمثَّله من قيمة وطنية وبالتالي هجومهم على مكرم عبيد المنشق عليه.
وفي الجملة فإن كتاب ��مبراطوريات متخيَّلة كتابٌ جيد يطرح أسئلة مهمة وشائكة عن تاريخ الدولة الحديثة في مصر، وتاريخ علاقتها بأطرافها، ولعله يكون سببًا في إعادة النظر في هذه العلاقة.

Profile Image for Fatma Nady.
80 reviews97 followers
June 28, 2020
في رحلة شيقة وثرية بالمعلومات، تأخذنا زينب أبو المجد أستاذة التاريخ بجامعة أوبرلين بالولايات المتحدة في جولة تاريخية تتجه نحو الجنوب، حيث المكان صعيد مصر، والزمان: العصور المتعاقبة منذ عهد المماليك مرورا بالعثمانيين والاحتلال الفرنسي إلى محمد علي باشا وخلفاؤه ثم الاحتلال البريطاني وانتهاءً بالتبعية الأمريكية الحالية. تعرض لنا الكاتبة المصرية ذات الأصول الصعيدية، ف��ي بنت محافظة قنا، ما مرت به المنطقة من ثورات واحتجاجات ضد القمع والسلب والنهب الذي تعرضت لها على مر العصور. وترصد لنا معاناة الفلاحين المقهورين، وما شهدته قراهم من تهميش على حساب العاصمة والوجه البحري. وما أفسدته الحكومات المتعاقبة عليهم، وفرضته من سياسات وقوانيين أضرت بهم اقتصاديا واجتماعيا وبيئيا وصحيا.
في البداية، تخصص فصلا عن حكم شيخ العرب همام، وكيف ازدهر الصعيد في عهده وعاصر المسلمون والأقباط أزهى عصورهم خلال حكمه. وكانت هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها عن شخصية شيخ العرب، وعن حكم قبيلة الهوارة وكيف كانت القبيلة الأقوى والأغنى في الصعيد، وشكلت ما يشبه بدولة قبلية متمتعة بحكم ذاتي.
وأصابني الإحباط لما عاناه الصعيد بعد ذلك من تعاقب فشل بعد آخر، هذا الصعيد الذي أنتمي إليه فأنا أقطن إحدى محافظات شمال الصعيد، لمسني كل ما ذكرته الكاتبة ووجدتني أعايشه إلى الآن. أمر مؤسف أن يضيع خيرات هذه البلاد ولا ينعم بها أهلها، وتستغل ثرواتها دائما لتحقيق مكاسب النخب الحاكمة، في حين يزداد مستحقيها بؤسا وشقاء.
الكتاب في الأصل عبارة عن رسالة دكتوراة للكاتبة قدمتها لجامعة جورج تاون الأمريكية، وتخط فيه سردا جديدا للتاريخ وتروي لنا قصصا أخرى غير تلك التي تلقيناها في المدراس. وتبتعد عن الرواية التي نسجها المؤرخون الاستعماريون التي ركزت على القاهرة بوصفها مقر الدولة المركزية وباعثة النهضة، وتحاول الكاتبة أن تسرد تاريخا بديلا من خلال بحثها في مئات الوثائق منذ القرن 16.
أستطيع أن أقول أنها كانت تجربة قراءة ثرية ومثمرة، وخرجت منها بعقل جديد وفكر آخر. إنه كتاب من تلك الكتب التي تصدمك، وتجعلك تأخذ مهلة بين الحين والآخر لاستيعاب سطوره وهضمها وقراءتها مجددا لمزيد من الفهم والاستيضاح، ومزيد من الصحبة الماتعة التي يقل وجودها في كتب التاريخ التي قد تشعرك بالملل سريعا بعد قراءة بضعة أسطر. استطاعت الكاتبة أن تجمع بين الإفادة والإمتاع في الوقت نفسه.
وجدير بالذكر أن أنوه إلى دور المترجم في ذلك، فقد وفق في إخراج النص بروح عربية أصيلة سلسلة وبليغة وسهلة الفهم. وله كل الشكر والتقدير على جهده واجتهاده.
اشتريت الكتاب من معرض الكتاب في يناير الماضي، من المركز القومي للترجمة بخصم 50% للطلبة. والحقيقة أن الكتاب يستحق أكثر من ثمنه بكثير، وممتنة جدا لكل من رشحه لي؛ فقد كان خير رفيق. وأنصح به بشدة لكل المهتمين بالتاريخ، ولكل من يود أن يوسع مداركه، ويتفتح عقله نحو آفاق جديدة.
Profile Image for Ahmad Hamdy.
281 reviews142 followers
September 23, 2018
الرواية الرسمية للتاريخ المصري قاهرية الأصل، لا تركز إلا على نخبة القاهرة باعتبارها النخبة الفاعلة. قصة مصر القومية في الرواية الرسمية هي قصة القاهرة وشمال مصر فحسب، فيما الصعيد مهمش تماماً. أما الكتاب فيرصد ثورات المهمشين في الصعيد على مدار القرون الخمسة الماضية في ظل إمبراطوريات مختلفة: الفرنسية خلال الاحتلال الفرنسي لمصر، وإمبراطورية محمد علي، والإمبراطورية البريطانية غير الرسمية قبيل الاحتلال، والإمبراطورية الرسمية بعد الاحتلال البريطاني لمصر، وأخيراً الإمبراطورية الأميركية التي حاولت تغيير البنيتين الاقتصادية والاجتماعية للصعيد لكنها فشلت. والكتاب ركَّز على مناطق قنا والأقصر وإسنا.

صعود وانهيار جمهورية شيخ العرب همام
في عام 1785، رفع مسئول بارز في الدولة العثمانية تقريرًا مُزْعِجًا للسلطان في إسطنبول. حمل التقرير حقائق مقلقة عن مصر- الجوهرة المضيئة في عرش السلطنة آنذاك- التي لم تكن ولاية موحدة خاضعة لسلطة الباب العالي، بل بلد منقسم لولايتين، إحداهما في القاهرة حيث يقيم الباشا الذي يرسله السلطان، والثانية تتمتع بحكم ذاتي في الصعيد٬ الذي لم يتيسر للسلطنة قط السبيل لغزوه والاستيلاء عليه.

قدّم التقرير وصفًا مبتسرًا للنظام الذي يقبض على زمام الأمور في تلك الولاية. وفقًا لكاتبه أحمد باشا الجزار، هناك قبيلة عربية تحكم الصعيد. ومع أن تلك القبيلة تلتزم بدفع الخراج السنوي للسلطان؛ إلا أن نفوذ الوالي العثماني في قلعة القاهرة المحروسة يكاد يكون معدومًا عليها وعلى إقليم الصعيد.

أشار التقرير كذلك إلى هذا القائد الأسطوري الحاكم الآمر في هذه الولاية، باسم قبيلته الهَوَّارة. قدم الجزار وصفًا لـ "إقليم شيخ العرب همام في إقليم الصعيد وما تحت يده من القرى الكثيرة وإيراداتها الوفيرة". وذكر تفصيلا: "تحت إمرته بشكل ثابت ودايم أربعة آلاف مقاتل يسيطر بهم على معظم قرى الصعيد ويلتزم بها بشكل وراثي أبا عن جد.. وهم لا يحضرون إلى القاهرة بتاتا، ولا يغادرون إقليم الصعيد ويؤدون ما هو مطلوب منهم من الأموال والغلال المقررة على القرى الواقعة تحت نفوذهم، ولا يعترضون على جمع الضرايب، فهم يقومون بأنفسهم سنويا بتعيين وإرسال عشرين كاشفا إلى المدن والقرى الواقعة تحت نفوذهم ليجمعوا حوالي ما يزيد عن الألف كيسة كإيرادات سنوية.. ويقع تحت سيطرة شيخ العرب همام ميناء القصير".

ردّد العديد من ضباط العسكر الأتراك قصصًا مشابهة عن هذه الدولة المستقلة والغامضة، التي تمتع فيها الأهالي بقدر ملحوظ من النفوذ السياسي على حكامهم، لدرجة أنهم في أوقات العصيان، كان بإمكانهم [الأهالي] أن يطلبوا من هذه النخبة الحاكمة أن تحمل متاعها وترحل عنهم.


حدث هذا تحديداً في عام 1695، عندما تحالفت قبيلة الهَوَّارة الحاكمة مع متمردي المماليك الذين خاضوا حربًا ضد الباشا العثماني في القاهرة ثم فروا هاربين إلى الصعيد. وفي أُتون ذلك الصراع، انتشر مرض الطاعون وفتك بالناس، بسبب القحط الذي تفشى في البلاد. آنذاك طلب الفلاحون الساخطون في قنا، عاصمة تلك الولاية، من الهَوَّارة أن يأخذوا متاعهم وأسرهم ويخرجوا من البلاد: [وقالوا] "نحن أناس زراعة وقلاعة، وقد فني أكثر من نصفنا، نحن لم بقينا نعارك، ونعصي السلطنة".

واعتادت البحوث والدراسات النظرية الحديثة حول الدولة العثمانية طرح جدلية مفادها: أن "المركز" الإمبريالي في إسطنبول حوَّل مصر مع أقاليم أخرى في شرق أوربا والبلدان العربية إلى محض "أطراف"، أو "هوامش" تابعة اقتصاديًا للمركز. ودائماً ما يكون المركز في أي إمبراطورية رأسمالياً منتجاً ذا اقتصاد متقدم، والهامش مستهلكاً ذا اقتصاد بدائي. ويؤكدون في هذا السياق أن مصر قد جرى إدماجها داخل منظومة "الاقتصاد الدولي العثماني" المهيمن، والمسيطر على حوض البحر المتوسط.

لكن في واقع الأمر بالنسبة للصعيد- نصف مصر الأغنى في تلك الفترة- فإن هذه الدراسات لم تتوخ الدقة، أو بالأحرى تكرر خرافات إمبريالية نابعة من الوثائق التاريخية للباب العالي، الحريصة على تعظيم سلطته. فخلال القرون الثلاثة التالية لغزو السلطان سليم الأول للقاهرة في عام 1517، تَشَكّل نظام حكم ذاتي في الصعيد تحت قيادة الهوارة غير خاضع بشكل كامل للباب العالي. بالإضاف لذلك، كان الصعيد آنذاك جزءًا محوريًا من منظومة اقتصادية أخرى دولية مهيمنة، وهي "اقتصاد المحيط الهندي العالمي"، وهي منظومة التجارة التي سادت في تلك الفترة وكانت الإمبراطورية العثمانية نفسها جزء منها وتابع لها.

ولاية الصعيد: سلطان واحد.. ودولتان
ولد نظام "الدولتان" في مصر بعد فترة وجيزة من غزو السلطان سليم الأول لها. ولكن كانت له جذور سابقة قبل فترات طويلة على الغزو؛ سيطرت نخبة حاكمة من المماليك ذوي الأصول الشركسية على مصر، متخذين من قلعة القاهرة مقراً لهم منذ انتهاء الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي.

ولكن نجحت قبيلة الهَوَّارة في فرض هيمنتها على الصعيد منذ عام 1380. بعد أن خاضت هذه القبيلة حروبًا ضروس مع المماليك، تمكنت من تأسيس سيطرتها على الأراضي الزراعية، وأنشطة التجارة والصناعة في الجنوب منذ ذلك التاريخ. وعندما دخل العثمانيون مصر، أقرّ السلطان بالوضع القائم، فلم يغزُ الصعيد، واكتفى بعقد اتفاقيات سلام مع الهوارة، ورضى بما يحصله منها من خراج سنوي، وعطايا أخرى جزيلة ترسلها القبيلة للباب العالي.

أما في الشمال، فقد عين السلطان بعضًا من بقايا المماليك الموالين له ليسيطروا على القاهرة والوجه البحري، ولكن تحت إشراف باشا ترسله إسطنبول. وبهذا وُلد نظام الدولتين في مصر بناءً على ترتيبات ما بعد الغزو العثماني. شملت هذه الترتيبات أطرافًا ثلاثة: المستعمر العثماني، نخبة عسكرية من المماليك حاكمة في الشمال، ونخبة قبلية من الهَوَّارة حاكمة في الجنوب.

بعد فترة وجيزة، وطدت الإمبراطورية نظام الدولتين هذا في وثيقة قانونية أصدرها السلطان سليمان عام 1525. كان عنوانها "قانون نامه مصر"، وهي عبارة عن مجموعة قواعد للتنظيم الإداري للولاية، بما يتضمن الاستقلال الإداري للصعيد عن القاهرة. استخدمت الوثيقة لفظ "ولاية الصعيد"، للإشارة الرسمية إلى منطقة جنوب البلاد.


ثورة الفئوس

الكتاب يستعرض الثورة الشيوعية والاشتراكية التي تعرف بثورة الفئوس، والتي قادها الشيخ الطيب أحمد النقشبندي من قرية السليمية التابعة لمحافظة الأقصر حاليا في عهد الخديو إسماعيل عام 1864م واستمرت لمدة عام.

وكانت ثورة الفؤوس قد استمرت لعدة أعوام وأدت لتدمير 3 قرى بمحافظة قنا آنذاك سميت بهذا الاسم لقيام السلطة بالقاهرة بقتل الثوار بالفؤوس، وهى ذاتها نفس الأداة التى استخدمها الثوار للتعبير عن احتجاجهم ضد الوالى وسياساته فى الصعيد.

“ف� وقائع ثورة 1864م التى قادها الشيخ الطيب أحمد بن أحمد عبيد مسعود من قرية السليمية التابعة لمركز أرمنت بمحافظة الاقصر حاليا، تبدو البريطانية الليدى لوسى داف جوردن التى عاشت فى الاقصر فى هذه الفترة الشاهدة الوحيدة عليها وعلى وقائعها التى امتدت لنحو10 قرى فى ربوع الصعيد المصري. كانت رسائل لوسى داف هى الوثيقة التاريخية الوحيدة للثورة التى تم وصفها بأنها ثورة شيوعية واشتراكية والتى اتخذت شعار الفأس الذى حمله الفلاحون وكان أداة لتعذيبهم من قبل السلطة التى قمعت أحداث الثورة بدموية عنيفة، جعلت الخديوى إسماعيل ذاته أن يطالب بإيقاف العذاب الذى وصل لدرجة بشعة ها الفلاحون وهم يحملون “الفأس�..

ولحسن الحظ، دونت الرحالة الإنجليزية ليدى داف جوردن التى كانت تقيم فى قنا للتعافى من داء ألم بها، شهادتها حول ما رأته من أحداث التمرد. هذا ما تؤكده الباحثة الدكتورة زينب أبو المجد فى دراستها عن “ثور� الطيب أحمد عبيد ووقائعها�.

تؤرخ الوثائق التاريخية لثورة الطيب أحمد فى عصر الخديوى إسماعيل أنها نشبت بعد ثورة أبيه الأولى بـ40 سنة فى عهد محمد على باشا تلك الثورة التى كانت أشبه بتمرد عنيف ضد سياسات الوالى محمد على باشا فى سياساته للاستحواذ على الأراضى الزراعية وقانون التجنيد وهو التمرد الذى وصفه مؤرخ السلطة على مبارك فى الخطط التوفيقية فى الصفحة 116.

قال على مبارك � وقد ظهر من هذه القرية (السليمية) فى سنة ست وثلاثين ومائتين وألف رجل اسمه الشيخ أحمد، يدعى الصلاح، وأقام بناحية حجازة من بلاد قفط واجتمعت عليه الناس وصار يعطيهم بعض العهود، وكثر أتباعه حتى بلغوا نحو أربعين ألفا على ما قيل، فاغتر بذلك وأظهر الخروج على الحكومة ورتب من أتباعه حكاما كحكام الديوان، وضرب على البلاد الجرائم ونهب الأموال وما فى الأشوان من غلال الميرى وما عند الصيارف من النقود، وأكثر من الإفساد برا وبحرا وخافته البلاد والحكام.

تقول الدكتورة زينب أبوالمجد فى دراستها عن الحياة ومظاهرها فى محافظتى الأقصر وقنا فى عصر الطيب “تمتع� حفنة قليلة من الأوروبيين بحيازة أرض زراعية شاسعة فضلا عن سطوتهم الكبيرة فى قنا وربما كان الخواجة مونييه، الإدارى الفرنسى لمنجم الكبريت، هو أكبر أجنبى تملكا للأراضى الزراعية بقنا فى ذلك الوقت. تضيف أبوالمجد أنه فى عام 1862، وقبل الثورة بعامين دخل منير مزادا لشراء نحو 3318 فدانا فى ناحية معروفة بغناها فى إنتاج القصب.

اشترى الخواجة الأرض بثمن بخس حيث دفع ثلاثة قروش لكل فدان. كما اشترى فى صفقة ضئيلة 11 فدانا من فلاحين فى نفس الناحية ولكن واجهته مشكلة فى هذه الصفقة. فقد جأر الفلاحون بالشكوى للحكومة بأنه أجبرهم وخدعهم كى يقومون ببيع أراضيهم لكن رفضت الحكومة مزاعم الفلاحين واعتبرت أن صفقة الشراء قانونية.

توضح زينب فى دراستها المهمة أن الأوروبيين وصلوا قنا فوق سفنهم البخارية السريعة، ذات التكنولوجيا الحديثة العاملة بالفحم، وسرعان ما اكتشف التجار الأوروبيون قنا فى عصر الأسواق العالمية المفتوحة.

كانت البواخر التجارية تحمل بضائع وتفرغ غيرها دون توقف طيلة أيام الأسبوع حوَّل التجار الأوروبيون قنا إلى سوق كبير لمحصول واحد: الحبوب وعلى رأسها القمح. كما تاجروا فى السلع التى حملتها القوافل السودانية إلى قنا. وانتشر فى مدن وقرى قنا القناصل التجاريين الممولين لدول مثل بريطانيا وفرنسا والنمسا والولايات المتحدة وموظفوهم من أجل قضاء مصالحهم

نالت هذه الدولة إعجاب بعض الرحالة الفرنسيين من معاصري تلك الفترة. وانبهر بها المثقفون المصريون في القرن التاسع عشر أيضاً، حتى وصفها رفاعة رافع الطهطاوي بأنها "جمهورية" مشابهة لما رآه في فرنسا التي تعلم فيها.
Profile Image for Mustafa Emara.
57 reviews27 followers
July 29, 2020
كتاب جميل وممتع جدا بيحكى عن الصعيد وثوراته ضد الظلم على مدى قرون وتمتعه بسلطة اكبر من سلطة القاهرة وبيحكى عن الثروات الضخمة اللى ساهمت فى بناء الدولة او فى ثراء المحتل.

الصعيد تمتع باستقلال ذاتى لقرون لحد ما محمد على أخضعه ليه وبدأ التهميش اللى استمر قرنين من الزمن لحد وقتنا ده.

المحتل الفرنسى كان محتكر فكرة الصورة عن الاخر وبيقدم نفسه على أنه الاوروبى الأبيض اللى جاى يحرر الهمج دول وينشر فيهم التنوير والمدنية وكان بيبص لمصر على أنه هيعيد أمجادها وأنها مهد الحضارات ....

أول لما الفرنسيين استولوا على القاهرة وتقدموا للصعيد ساعدهم فى سيطرتهم عليه قبائل العربان اللى عايشين فى الصحراء والأقباط اللى بيديروا النظام الضريبى....

كان الفرنسى بيبص عليهم كلهم على انهم همج وفى نفس الوقت كان شيخ قبيلة مثلا يبص لواحد فرنسى على انه خدام ليه زيه زى اى كد... وبردو الأقباط كان بيبصوا للفرنسى على أنه ساذج ويسهل خداعه... وده عمل خلل فى تفكير الفرنسيين ساعتها.
Profile Image for أحمد هاني.
452 reviews41 followers
May 26, 2018
كتب جيد يتصف بالاكاديمي أكثر عن منطقة في مصر مهمشة تاريخيا واقتصاديا وسياسا وهي الصعيد والذي لم يأتي الكتاب الا بالنذر القليل عنها وكأنه قدر الصعيد
Profile Image for محمد إلهامي.
Author22 books3,823 followers
August 21, 2023

ثمة مشكلة جوهرية في مدرسة التاريخ الغربية عموما، تلك هي شغف المؤرخ بإنتاج نظرية تفسيرية، يؤرخون لهذا منذ فولتير الذي سمع شكوى معشوقته مدام دي شاتيليه من أن التاريخ المسرود هو حشد من الأحداث الصغيرة المتقطعة، لا يبدو مفهوما، ولا يقدم إفادة.. فابتدأ الفيلسوف الفرنسي نمطا من التاريخ يقول عنه: "يجب أن يُكتب التاريخ مفلسفا".

وكان فولتير -مع إدوارد جيبون وديفيد هيوم- أول من شرعوا في هذا النمط من التاريخ الذي هو ليس مجرد بحث وتنقيب وسرد، بل هو فوق ذلك ومعه تحليل وتفسير واستنباط.. وصار هدف المؤرخ من ذلك الوقت أن يخرج كتابه كقصة مكتملة الأركان والزوايا، يقرؤه القارئ كما يقرأ الرواية المؤلفة..

ومن هاهنا لم يعد المؤرخ يتكلف البحث في الوثائق والأرشيف ويستخرج المعلومات، بل عليه بعد ذلك أن يتكلف التحليل والتفسير، فعليه أن يغوص في أغوار النفس، وأن يزيد من معارفه في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا بل والمناخ والتربة.

يقول قائل: ما المشكلة في هذا؟

والجواب: المشكلة أن أندر الناس من يطيق هذا كله.. ومن هنا فإن سيادة هذا المنهج وانتشاره، بفعل انتشار الجامعات وأقسام التاريخ، ثم بفعل الهيمنة الغربية على العالم كله، لم يُخرج لنا مؤرخين على هذا النمط أبدا.. بل أخرج لنا كثيرا ممن يفشلون أن يبلغوا هذا!

تماما مثل الجامعات الكثيرة التي تدرس الفلسفة، ولا يخرج منها إلا قليل جدا من الفلاسفة الحقيقيين!

إن استخراج نظرية هو عمل عظيم يأتي عادة بعد بلوغ النضج العلمي، بعد سنين طويلة من الخبرة والمعرفة والتجربة، ولا يؤتاه بعد ذلك إلا أفذاذ الناس وأذكياؤهم.. لكن طالب التاريخ في عصرنا -لا سيما إن درس في جامعات غربية وشغف بطريقة الكبار منهم في استنباط نظرية- إن لم يكن مُطالبا بنظرية تفسيرية يتبعها أو يبتكرها، فهو شغوف بأن يستخرج من عند نفسه نظرية يفسر بها ويتبعها.. وهذه أزمة!

يشبه الأمر أن تُكَلِّف المراسل -الذي مهمته نقل الخبر- أن يكون محللا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والجريمة، فهو عند كل خبر ينقله -من أول لقاءات الرئيس حتى الحادثة التي وقعت في مصنع- يجب أن يكون محيطا بالتفاصيل العلمية والفنية التي تُمَكِّنه من تقديم رواية متماسكة وافية عن الموضوع.. فانظر كم مراسلا يستطيع أن يفعل ذلك؟!

فإن كان هذا صعبا في المراسل الذي يحلل حدثا حاضرا، فكيف يكون في شأن المؤرخ الذي يحاول استعادة الماضي الغائب المغمور؟!!

هذا الكتاب من هذا النوع.. نقطة ضعفه القاتلة هو محاولة المؤلفة ابتكار نظرية تفسيرية، أسمتها "الإمبراطوريات المتخيلة".. لو أنها لم تأبه لهذا، لكان كتابها أفضل كثيرا كثيرا مما صار إليه.

لقد غطى هذا الضعفُ في النظرية المُتَكَلَّفة على المجهود القوي الذي بذلته المؤلفة في استخراج الأخبار من الوثائق والأرشيفات والسجلات القديمة.. وبدلا من أن يتوقف المرء بالإعجاب أمام ما استخرجته من تفاصيل، يجد نفسه مصطدما دائما بالتعسف المبذول لتطويع هذه المعلومات ومحاولة حشرها في سياق النظرية!

خلاصة فكرة الكتاب أن الصعيد المصري يمثل حالة تنكسر عليها مقولات المدارس التاريخية التي تجعل الإمبراطورية كيانا قويا ومهيمنا على أجزائه، تقول المؤلفة: الصعيد يثبت أن الإمبراطوريات التي حضرت إلى الصعيد كانت فاشلة، وأن وجودها لا يعدو أن يكون وجودا مُتَخَيَّلًا، فقد واجهت مقاومة كبيرة من أهل الصعيد، أخفقت معه في تثبيت نفسها فيه، كما أنها جلبت إلى الصعيد أحوالا من البؤس والفقر والدمار لا يتفق مع دعاوى هذه الإمبراطوريات التي تزعم فيها أنها تغير حياة الناس إلى الأحسن!

ووفقا لهذا المنظور: درست المؤلفة أحوال الصعيد تحت خمس إمبراطوريات قالت إنها كانت جميعا على هذا النمط:

(1) الإمبراطورية العثمانية
(2) الإمبراطورية الفرنسية (سنوات الحملة الفرنسية)
(3) إمبراطورية محمد علي وأولاده
(4) الإمبراطورية الإنجليزية (زمن الاحتلال الإنجليزي)
(5) الإمبراطورية الأمريكية (زمن السادات ومبارك)

وأخذت المؤلفة في تتبع أمرين في كل إمبراطورية؛ الأول: ما أحدثته هذه الإمبراطورية من الدمار والخراب والبؤس. والثاني: ثورات الصعيد ومقاومته لوجود هذه الإمبراطوريات.

يتمثل العيب الثاني الخطير لهذا الكتاب في الانحياز اليساري (الشيوعي) للمؤلفة، فقد أثَّر هذا الانحياز في اختيار وانتقاء أخبار المقاومة وأبطالها من بين الأرشيف الصعيدي الزاخر، ثم أثَّر في تفسير حركات المقاومة التي اندلعت في الصعيد..

كان الاختيار يأخذها دائما نحو: الطبقات الفقيرة والعُمَّال والمرأة (والعدو طبعا هم السلطة والأثرياء والوجهاء ورجال الدين).. ولا بأس إذا اجتهدت فأدرجت في عِداد المقاومين أصحاب الجرائم وقُطَّاع الطرق ممن عرفوا بالفلاتية ومطاريد الجبل.. ويجد المرء حرجا واضحا في عباراتها حين تذكر أمثال خُطّ الصعيد وعزت حنفي ونوفل ونحوهم.

وكان التفسير يأخذها دائما نحو أسباب الفقر والتهميش والنزعة الذكورية والدين الذي يُدَجِّن الناس لحساب الأغنياء والحكام.

ولهذا خرج الكتاب رواية يسارية ضعيفة لتاريخ الصعيد، فلم يستطتع أن يحقق بأدلة شبه كافية نظريته التي تقول بأن الحضور الإمبراطوري في الصعيد كان هشًّا ومتخيلا، ولا أن ثورات الصعيد كانت شيوعية!

وها هنا توضيح مهم يجب قوله: لست أعترض ابتداء على أن يوصف الفلاتية والمطاريد بالمُقاوِمين طالما خرجت الأدلة الكافية على هذا، بل هم في هجومهم على رجال السلطة وممثليها ومشاريعها يندرجون في أعمال المقاومة بغير شك.. وذلك لأكثر من سبب:

1. منها: أنه لا توجد ثورة شعبية ولا توجد حركة مقاومة نقية تلتزم بالقانون أو حتى بالدين، بل الثورة عمل شعبي لن يخلو أبدا من مساهمة "المجرمين" فيه، فهم من أبناء الشعب على كل حال، وكثيرا ما تكون مساهمتهم مفيدة وفاصلة، وكثيرا ما تكون مضرة ومربكة.. وهذا أمر لا مناص من ذكره كحقيقة اجتماعية، ولو كره الثوار المثاليون!

2. ومنها: أن هؤلاء الفلاتية والمطاريد إنما هم في كثير من الأحوال ضحايا لظلم السلطة وإجرامها، ولا يمكن إدانة المظلوم إذا انتهز فرصة ينتقم فيها من ظالمه وجلاده.. والقانون الأعور وحده -مثل الثائر المثالي الأعور الملتزم بالقانون الأعور- هو من يبصر خرق هؤلاء للقانون، ولا يُبصر الجريمة الكبرى، وهو أن ��فس هذا القانون قد وُضِع لتقنين وشرعنة الظلم والإجرام.

ومع هذه الاعتبارات المذكورة، فإن الحديث عن هؤلاء المطاريد والفلاتية في سياق كونهم إفرازا صعيديا للمقاومة ضد وجود الإمبراطوريات، هو الأمر الذي يجب أن توجد عليه أدلة كافية قبل الإقدام عليه.. وهو الأمر الذي لم تستطعه المؤلفة! فهذا موضع النقد الذي أقصده هنا! فهي قد بذلت جهدا كبيرا لكي تجمع شتات أخبار هذه "المقاومة"، وتكلفت في العبارات، واقتصت اقتصاصا معيبا (يتبدى بوضوح لمن يراجع مصادرها وراءها) لكي تحتفظ بأكبر قدر من قصص هؤلاء الفلاتية والمطاريد، في سياق أنهم استهدفوا السلطة.

كذلك، فإن المؤلفة تأرجحت بين دعويَيْن متناقضتيْن، فهي تتحدث عن وجود متخيل للإمبراطوريات الخمسة (وهذا ما يُفهم منه أن المقاومة كانت أكبر من الهيمنة الإمبراطورية)، وتتحدث في الوقت نفسه عن أن هذه الإمبراطوريات قد جلبت معها الدمار والخراب والبؤس والفقر وأحالت حياة الناس إلى جحيم (وهو ما يُفهم منه أن الإمبراطوريات كانت مهيمنة فعلا وأنها متغلبة على المقاومة الصعيدية).

وظلت المؤلفة طوال الكتاب تردد هذا الكلام دون أن تنتبه للتناقض بينهما، إلى حد يثير الحيرة والدهشة، وتضيف إليهما إدانة الإمبراطوريات التي لم تحقق ما زعمته لنفسها من تحسين أحوال المواطن والفلاح والمرأة.. كأنها تد��نه لفشله، ومتى كان المحتل صادقا في دعاواه؟!!!

ولكن المحتل -مهما كان كاذبا- فإن فشله وما سببه من بؤس وخراب ودمار هو دليل وجوده.. فوجوده هنا ليس متخيلا ولا متوهما!

تلك النظرة اليسارية القومية (الصعيدية) -إن صح التعبير- جعل المؤلفة تجمع بين الإمبراطوريات الخمسة في سياق واحد.. فالصعيد قاوم العثمانيين كما قاوم الفرنسيين كما قاوم الأسرة العلوية كما قاوم الإنجليز والأمريكان.. وهذا في واقع الحال غير صحيح، ولا يحتاج المرء أن يسعى في نقضه لشدة تهافته!

فالعثمانيون لم يحفلوا أصلا بالحضور المركزي في الصعيد، على عادتهم في سائر الولايات، فضلا عن أن الصعيد -ولا حتى الشمال- لم ير العثمانيين كمحتلين ولم يسع في مقاومتهم.. وذلك على خلاف الفرنسيين والإنجليز.. بل ولا يمكن القول أن الصعيد نظر إلى محمد علي وأسرته كمحتلين (مع أنهم فعلا أسوأ من الاحتلال.. لكن لا يمكن إطلاق هذه الدعوى)، وكذلك أيضا: الأمريكان!

لقد كان فصل الأمريكان هذا هو الفصل الأضعف في الكتاب! ولا زلت أستغرب أنها وضعته كأنما هو دليل على مقاومة صعيدية، أو على وجود متخيل للإمبراطورية.

توقعتُ، أن المؤلفة ستتوقف طويلا عند فصل "الجماعات الإسلامية" في الصعيد، كدليل بارز على المقاومة الصعيدية للحضور الأمريكي، لقد قام العديدون من اليساريين بتفسير هذه الحقبة تفسيرا يساريا اجتماعيا، وحاولوا حشر تجربة الجماعات الإسلامية في السياق الطبقي الاجتماعي.. ولكن المؤلفة لم تفعل، ولم تذكر شيئا عن هذا الفصل مع أنه أشد الفصول بروزا وحضورا في تمردات الصعيد، وهو أقربها إلى الواقع.. لم تفعل المؤلفة إلا أن قفزت فوق كل هذا وذهبت تذكر حضور الصعيد في مظاهرات ثورة يناير.. ومن عجيب ما فعلت أنها نقلت هذه الفعاليات عن موقع "قنا أون لاين" الذي هو موقع الإخوان المسلمين في قنا (لست أدري هل كانت تعرف هذا وتكتمه، أم أنها لا تعرفه).

ثمة الكثير من التفاصيل والمعلومات يمكن التوقف عندها في هذا الكتاب، وفيه غرائب ليست بالقليلة: لقد أرادت المؤلفة تحميل مسؤولية انتشار الطاعون في الصعيد للدولة العثمانية والمماليك!! وأن حضورهم في الصعيد هو الذي جلب الطاعون!! واتخذت هذا دليلا على الحضور الإمبراطوري المتخيل المسبب للدمار والبؤس والخراب!!

ومن الغرائب أن تستعمل الكلمة ذاتها مرة دليلا على زعمها، ومرة ترد عليها وتحسبها من توهمات قائلها

ومن الغرائب مرورها العابر على ملف الأقباط والتصاقهم بالإمبراطوريات القائمة في الصعيد، تذكر ذلك في أوجز عبارة ممكنة، وشغفها في توريط الفقهاء والعلماء المسلمين في هذا الالتصاق مع افتقاد الأدلة على ذلك.

وأمور أخرى سيكون الخوض فيها من التفصيل والتطويل غير المناسب لهذا المقام، ولعل الله ييسر فنفرد لذلك دراسة خاصة مطولة.

لا يزال تاريخ الصعيد، وتاريخ سائر المناطق المهمشة في عالمنا الإسلامي، بحاجة إلى مؤرخين أصلاء، ينظرون إلى الأمور بعين أهلها المسلمين، ويستطيعون استخراج النظريات التفسيرية الطبيعية لحركة التاريخ في المجتمعات المسلمة، وليس حشر حركتهم في نظريات غربية أو متكلفة.
Profile Image for Khaled Ȝbd el nasser.
2 reviews1 follower
August 13, 2019
I will write a review in Arabic and in English. For English, go to the bottom.

انتهيت من قراءة هذا الكتاب في أيام قليلة ولا يمكنني وصف سعادتي به. وبرغم تحفظي على الكثير من الأشياء مثل قصر الموضوعات المطروحة وعدم شمولها، إلا أنني أعطيت الكتاب خمس نجوم بسبب نوعية الموضوعات المطروحة نفسها. أنا من القاهرة، ذو أصول صعيدية من أشراف محافظة قنا. كانت جدتي دائما ما تحدثني بلهجتها الصعيدية التي أفتقدها عن الصعيد وتاريخه، ولطالما تعاملت مع ما تقصه على أنه أساطير، لم أجد ما حكته لي جدتي عن الصعيد، وتاريخ قبائله وحروبه ودولته التي وجدت يوما في أي مناهج حكومية درستها. وطالما ظننت أن ما حكته جدتي أشبه بأساطير الأولين. لم أهتم حتى بالبحث عما قالته. ثم وقعت بالصدفة على هذا الكتاب الذي جاء و كأنه فتح مبين و إلقاء للضوء وتفسير لما كانت تحكيه جدتي. ولأول مرة أهتم حقا بأن أبحث عن كل كلمة حكتها لي جدتي، رحمها الله، يوما
أسطورة الدولة المصرية الموحدة ذات الهوية الواحدة والثقافة الواحدة والتاريخ الواحد تعاملت مع تاريخ أي منطقة خارج مصر(وهو الاسم المستخدم في المراجع التاريخية للقاهرة وما حولها وليس لكامل القطر المصري بحدوده الحالية) كتهديد لوحدة متخيلة، ما
أضاع تاريخ أغلب مناطق مصر الحالية

I finished reading this book in a few days, and while have a lot of comments on certain aspects of the book, such as the shortness of the subjects presented, I still gave the book a 5 star review for the nature of the subjects discussed. I grew up in Cairo as 3rd generation of a Saïdi origin. Originally from the Ashraf Arab tribes, I still remember my grandma telling me stories about Saïd and its non-recorded history, its independent state, its tribes and its wars. I never studied what she told me in school, it was never mentioned even by independent history researchers whose writings were obviously tainted by Cairo’s Nationalistic myths, so, I have always considered what she narrated as some sort of myths. I never even bothered searching for more information on what she said. But then one day, I find this book, and I cannot describe how I felt reading it, as if my grandma was the one who wrote it. Suddenly, I want to remember every thing she said and search for it. May she rest in peace. The idea of Nation-State has marginalized, or rather killed the history of all regions of Egypt outside of Cairo, and I am happy someone is trying to revive that history.
Profile Image for Khaled Ȝbd el nasser.
2 reviews1 follower
August 13, 2019
I will write a review in Arabic and in English. For English, go to the bottom.

انتهيت من قراءة هذا الكتاب في أيام قليلة ولا يمكنني وصف سعادتي به. وبرغم تحفظي على الكثير من الأشياء مثل قصر الموضوعات المطروحة وعدم شمولها، إلا أنني أعطيت الكتاب خمس نجوم بسبب نوعية الموضوعات المطروحة نفسها. أنا من القاهرة، ذو أصول صعيدية من أشراف محافظة قنا. كانت جدتي دائما ما تحدثني بلهجتها الصعيدية التي أفتقدها عن الصعيد وتاريخه، ولطالما تعاملت مع ما تقصه على أنه أساطير، لم أجد ما حكته لي جدتي عن الصعيد، وتاريخ قبائله وحروبه ودولته التي وجدت يوما في أي مناهج حكومية درستها. وطالما ظننت أن ما حكته جدتي أشبه بأساطير الأولين. لم أهتم حتى بالبحث عما قالته. ثم وقعت بالصدفة على هذا الكتاب الذي جاء و كأنه فتح مبين و إلقاء للضوء وتفسير لما كانت تحكيه جدتي. ولأول مرة أهتم حقا بأن أبحث عن كل كلمة حكتها لي جدتي، رحمها الله، يوما
أسطورة الدولة المصرية الموحدة ذات الهوية الواحدة والثقافة الواحدة والتاريخ الواحد تعاملت مع تاريخ أي منطقة خارج مصر(وهو الاسم المستخدم في المراجع التاريخية للقاهرة وما حولها وليس لكامل القطر المصري بحدوده الحالية) كتهديد لوحدة متخيلة، ما
أضاع تاريخ أغلب مناطق مصر الحالية

I finished reading this book in a few days, and while have a lot of comments on certain aspects of the book, such as the shortness of the subjects presented, I still gave the book a 5 star review for the nature of the subjects discussed. I grew up in Cairo as 3rd generation of a Saïdi origin. Originally from the Ashraf Arab tribes, I still remember my grandma telling me stories about Saïd and its non-recorded history, its independent state, its tribes and its wars. I never studied what she told me in school, it was never mentioned even by independent history researchers whose writings were obviously tainted by Cairo’s Nationalistic myths, so, I have always considered what she narrated as some sort of myths. I never even bothered searching for more information on what she said. But then one day, I find this book, and I cannot describe how I felt reading it, as if my grandma was the one who wrote it. Suddenly, I want to remember every thing she said and search for it. May she rest in peace. The idea of Nation-State has marginalized, or rather killed the history of all regions of Egypt outside of Cairo, and I am happy someone is trying to revive that history.
Profile Image for عمرو ثروت مقلد.
3 reviews4 followers
August 4, 2017
كتاب جميل ومجهود رائع ولكنه كان يحتاج سرد أوسع لمرحلة مبارك وأوضاع الصعيد فيها ودور النفوذ الأمريكي الإمبراطوري في الصعيد ولكن للأسف ذكرت هذه المرحلة بشكل مختصر وقاصر
Profile Image for Mohamed Saad.
6 reviews2 followers
July 16, 2024
كتاب ممتاز فى روايته احداثا خارج دائرة السلطة و تطبيقته لنظريات ما بعد الكولونيالية على وطني المعاش
Displaying 1 - 15 of 15 reviews

Can't find what you're looking for?

Get help and learn more about the design.