أن ينقذنا الأدب وقت الفاجعة
� تُخرِّبُ الفاجعةُ كلَّ شيءٍ، بإبقاءِ كلِّ شيءٍ على حالهِ. إنها لا تُصيبُ هذا أو ذاك، و (أنا) لا يطولُني تهديدُها؛ وإذْ تُهدِّدُني، ناجياً ومعزولاً، إنما تهدِّدُ فيَّ ما هو خارجٌ عن ذاتي، سواي الذي أغدو إزاءه آخرَ رغماً عني.�
مضت عدة أيام الآن منذ أن كَسرت ابنتي � سماء� كوع يدها، ولكن يمكنني أن أعرف -وبشكل قاطع- بأن تلك الأيام الثلاث التي مضت، لن تُنسى أبداً. هذا هو الأمر الخاص بالفاجعة؛ إنك تعلم مسبقاً بأنها ستسلخك وتعرّض صلابتك لأشد عوامل التّعرية، ستشوه روحك لتخلف ندبة ولا شك، ومع ذلك فإن ذاكرتك ستحتفظ بكل دقائق هذه المرحلة؛ بالوقت البطيء، ونظرات العيون إذ تنضح بالرعب، بالأحداث المتسارعة، ولياليك التي تداري فيها وجعك، بالألم طازجاً وطرياً، بأحاديثك العابرة خارج حدود الزمان، وبالكتب التي كنت تقرؤها لغرض النجاة.
[image error]
� � أنصت لديه ندبة.
� أين؟
� ألا تسمع؟ في صوته.�
سماء.. إيدها.. تعال تكفى..
خرج صوتي غائراً، مبحوحاً، سحيقاً من منطقة نائية معتمة أنادي بها زوجي كي يعاين سماء التي تتلوى من الألم. كانت عيناها أشبه ببحيرتا ماء فاضتا لوهلة من كل الجهات بأكثر أنواع الماء شفافيةً. كانت عيونها مفتوحة على اتساعها، كبيرتان، هائجتان، متحفزتان، تتنفس كما لو اعتمل داخلها إعصار مجنون. وجهها الطري الشقي بدا لوهلة كبحر يفيض على روحي بلا هوادة، فيضان لم أرَ مثله من قبل، فيضان أحكم قبضته على رقبتي.
[image error]
� الفاجعة ليلةٌ يعوزُها الظلام، دون أن يضيئَها النورُ.�
كيف كانت تبدو السماء يومها؟ ضبابية ثائرة بشيء من غبار ربما؟ الأكيد أنها بدت ثقيلة، وشحيحة من امتداداتها لدرجة تثير الغثاء. الشوارع فارغة في هذا الوقت بسبب انتشار وباء فيروس كورونا، يبدو العالم في لحظة خاطفة، مكاناً مهجوراً مقفراً مقتطفاً من فيلم رعب. أنا لا أحب مشاهدة أفلام الرعب، ولكنني أعيش إحداها الآن. وهذا لوحده مدعاة للأسف والبكاء.
أحسست برغبة عارمة لأن أبصق نفسي!
[image error]
أنهينا الأشعة –بع� أن تعلمت شيئا من علاجات الشعر من موظفة الاستقبال!- وتوجهنا لانتظار الطبيب في مشاوراته مع طبيبٍ آخر فيما يخص حالة سماء الصحية.
كنت أذرع غرفة الانتظار بينما الطفلة في حضن أبيها، أذرعها كما لو كنت أسعى سعي هاجر. لم أكن أمشي، لو أكن قلقة، لقد كنت أتدفق هلعاً. أرتدي كمام الوقاية من الفايروس، بينما في نفسي؛ أردت أن أخفي خيبتي، رعبي، خوفي، وصياح رأسي الذي لا يتوقف؛ من عيني سماء الخائرتين.
� الفاجعةُ نهمةٌ. �
سيكون لزاماً إجراء عملية جراحية مستعجلة هذا المساء للطفلة. سنفتح شقاً بطول 7 انش، نعيد العظام لوضعها الصحيح، ثم نضع أسياخاً من الحديد.
[image error]
� وأقول بأني حزين بشكل آخر، حزنا لا يشبه حزني حين يكون العالم أرجوانياً أو حين يتعثر شخص ما في الشارع. ويقول الآخرون لا بأس. وأعرف أني لست حزيناً.. أنا أشبه شيئاً آخر، أكبر من كل حزن. أنا صدئ، وأعبر نحو الجنون، وأشعر برغبة في أن أكسر ساقي.�
الوقت بطيء، وأنا أتماسك، تتمدد على سطحي الشروخ والكسور وأتماسك، لا يجب أن أبكي، أو أقلق، أحتاج لأن أبتسم وأضحك أمام سماء الملتحفة برداء غرفة العمليات الأخضر القبيح. نشغل أغانيها المفضلة ونغني سويا كما لو لم يحدث شيء. تتشنج قدماي كلما فتح باب ممر العمليات ظنّاً مني بأنه قد حان دور سماء.
ما الذي حدث لذكريات امتحانات نهاية العام للثانوية العامة! اللعنة!
بسبب فيروس كورونا، وتطبيقا للاجراءات الاحترازية، تم طردي خارج جناح العمليات لغرفة الانتظار الخارجية.
الوقت بطيء، بطيء، بطيء
رأسي ينفجر على نفسه
أنا أنفجر على نفسي
ما الذي يحصل، ومتى سينتهي هذا كله
كنت أريد لأحدهم أن يوقظني من النوم.
“ويشب� الجنون، أكثر ما يشبه، صداع الرأس، لكنه ينتشر في أعضائك كلها. فحين أكون مجنونا، أشعر بالصداع في قلبي وفي مفاصلي وتحت أجفاني. وحين أكون مجنونا، أبدأ بالارتجاف من شدته، وأبدأ بالنشيج ويشتد الألم في خلايا الدم.. وأرمي برأسي على الحائط فيتهشم، وألقي بجسدي أمام كل عربة وأجمع أشلاءه..�
على مرتبة المستشفى الأرضية -التي يفترض أنها أعدّت لنومي- أجلس دون حراك أستمع للتنفّس المنتظم لابنتي النائمة بعد هذا اليوم العصيب. هذا الهدوء فجّ للغاية، ورغم ذلك فإنني أُنصت تماماً لصوت بكائي الصامت، يخدش هذا الليل. أتسلّل مني هذه الليلة فقط، أستمع لكل حطامي الداخلي، كسوري وزلازلي، أنهار ملء الصراخ كله ولا أصرخ، لا أقدر أن أصرخ، لا أقدر أن أصيح، علمت هذه الليلة بأن الصراخ والصياح امتياز لا أحقيّة لي به كأم يجب أن تظل صلبة، قوية، ومتماسكة. متماسكة جداً. حتى كدت أن أجن.
لم أتصل بأمي كثيرا، أخبرتها بأنني سأصيح لو أنا حادثتها، سيخر هذا الجدار الهش عن آخره.
أردت أمي
أردت أن أصيح في حضن أمي
أردت أن أذوي وأذوب داخل أمي
أن أفقد صوتي، وتجف دموعي
أردت أن أشفى..
لكنني كنت الكأس الزجاجية المليئة بالكسور هنا، والتي لم تخر بعد، القشرة العظيمة والقوقعة الهائلة التي تحوي كل هذا الحطام. لست الجنين الدافئ المتكور في الرحم بعد اليوم. ورأسي يكاد ينفجر.
“حي� أكون مجنوناً جداً وأقتل نفسي من الداخل، أبكي عليَّ. فيتسلل من عينيَّ دمع، ويراه الآخرون، ويسألونني: ما الذي تفعله؟ فأجيب أحياناً: أدفن نفسي.�
[image error]
أنقذني الأدب، طوال فترة بقائي القسريّة في ذاك المكان كنت أحتمي بالأدب. أطعم سماء، وألبي حاجاتها، نغني سوياً ونقص القصص الخيالية –والت� لا أتذكر معظمها الآن-، نخرج للمشي قليلا في ممر جناح الأطفال، نعود عندما تقرر ذلك، وما أن تغفو حتى أحتمي من وحدتي بالأدب.
“الفاجع� منعزلةٌ، بل أكثر الأشياء انعزالاً.�
قدرة الأدب الحقيقية لا تنحصر في الحالة المعرفية والعمق الإنساني الذي نحسّه ونرى آثاره كلما قرأنا، لكنها تتخطّى ذلك لأن تكون جزءاً حيًّا وحقيقياً في جعل الحياة أمراً ممكناً وقابلاً للعيش.
كنت ألتهم الشعر في وحدتي كما لو كنت أبحث عن سلوان من نوع آخر، عن مؤنس أو رفيق يخفف وطأة الكائن المهشم فيّ، يجلي هذا التعب الثقيل الذي يصلب قلبي من الداخل. أقرأ شيئاً مما قرأته مسبقاً ومما لم أقرأه. أحس بنفسي في مكانٍ ما من كل قصيدة. أهرب من مرتبة المستشفى لكنبة رولا الحسين، أو لفصول علي عكور الأربعة، أو حتى لذئاب آلاء حسانين. وكم كنت أبكي كلما قرأت “وتل� الأم التي أرادت أن تخرج من نفسها كانت أمي..� لإبراهيم الحسين.
أردت أن أخرج من نفسي
أن أدخل قصيدةً ما
أن أكون قصيدةً ما
أن أختفي
وأتبدد
أجل، ذاك أفضل.
[image error]
“تحض� وتغيب بذاكرة مفخخة؛
يبدو أن ذلك ليس ببعيد،
يبدو أن ذلك هو الأقرب.�
ملاحظة: بعد مرور ما يقرب الأسبوع، سماء بخير وصحة جيدة. شكراً لكل من سأل.
كتاب الفاجعة � موريس بلانشو
كانتصار صغير للبرق والرعشة � علي عكور
المصدر الأول
المصدر الأول
العهد الجديد كلياً � آلاء حسانين
المصدر السابق
المصدرالسابق
المصدر الأول
يسقط الآباء حجرا حجرا � إبراهيم الحسين