ŷ

ياسر عبد اللطيف's Blog: مواطن صالح من المعادي

June 26, 2018

بعد قصائد العطلة الطويلة: ياسر عبد اللطيف: الشعر جريمة تطاوُل علي اللغة والمنطق والوجود الإنساني! حوار مع أسامة فاروق

� كثيرون يرفضون إعادة النظر في تجاربهم الأولى، يفضلون أن تظل متوارية، خاصة إذا تحقق الكاتب في مجال آخر، أو حتى شكل كتابي آخر. لكنك على العكس تخرج أعمالك القديمة، لتعطيها فرصة أخرى تحت الشمس. عندي أسئلة في هذه النقطة، أو ربما هو سؤال واحد بصيغ مختلفة:
- ألا ترى أن تجميع الأعمال خطوة مبكرة بالنسبة لك؟
- هل هي تجربة مكتملة لن تعيدها فقررت حفظها في كتاب؟
- هل هي استدعاء للشعر أم وداع له؟

لا شيء من هذه الاحتمالات كلها. فما أحذفه من عملي أحذفه نهائيا ولا أعود إليه. هنا الأمر مختلف، فمن الطبيعي أن يُعيد كاتبٌ طباعة أعماله القديمة خاصة إذا كانت الطبعات السابقة محدودةً وقد نفدت ولم تصل للقراء الحاليين. الكتاب الجديد "قصائد العطلة الطويلة" يضم قصائد مجموعتي "ناس وأحجار" 1995، و"جولة ليلية" 2009، إضافة لبعض القصائد التي كتبت بين الديوانين ولم تنشر في كتاب من قبل، وإن كان نشرت بالفعل في بعض المجلات كـ "الكتابة الأخرى" وغيرها... أنا لا أعتبرها قصائد قديمة ماتت ويجب نسيانها. هي قصائد تمثلني في لحظات ماضية. لا تزال تلك اللحظات فاعلة بشكل ما، وقابلة للاستحضار، ولا تزال القصائد صالحة للتداول (من وجهة نظري على الأقل).

� الفترة من 92 وحتى 2009 هي الفترة التي شهدت تجاربك الأولى، معافرتك مع الحياة في القاهرة، شكلت الكثير من شخصيتك، كما أكدت فى كتابات تالية، لم تكن عطلة بالتأكيد.. لماذا إذن هذا العنوان؟ أم أنها عطلة بالنسبة لما أنت فيه الآن؟

هناك قسم من ديوان "ناس وأحجار" بعنوان" قصائد من العطلة" وهناك قصيدة في هذا القسم تحمل عنوان "العطلة" الفكرة في هذه القصيدة كانت تحمل تصوري عن الشعر وقتها بكل سذاجة البدايات وبراءة الصور. كنت وقتها أتصور أن الشعر "يشعُّ" في لحظات عُطلة ذهنية، عندما تكفّ الأفكار عن الترابط بشكل منطقي وتظهر لها علاقات ووشائج حدسية أو غير مباشرة. وكنت وقتها بدأت بالفعل في كتابة رواية "قانون الوراثة". وكتابة نص سردي تستدعي أشكال من التخطيط والهندسة وبعض البحث، كنت أجد في الشعر تحررا من تلك الالتزامات الذهنية. أنهيت ديوان ناس وأحجار وقتها في نهايات 1994، ولم انته من قانون الوراثة إلا عام 2000 على الرغم من حجمها الذي لم يتجاوز 100 صفحة. ولم تنشر قبل يناير 2002.
أما هنا، ومع هذا الكتاب الاستعادي، إن صحت التسمية، فالعطلة تشير لمجمل ما يمكن أن تسميه "تصوري عن الأدب والكتابة" ما قبل السفر ومغادرة القاهرة. في حوار مع الصديق أحمد شافعي حول نفس النقطة قلت له إنني استلهم هنا بشكل ما مقولة علي ابن ابي طالب "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا" فكأني أقول "الناس عاطلون، فإذا سافروا بدأ العمل". وهو مفهوم يخصني بالطبع. الموت في الإسلام وعند علي ابن أبي طالب بالضرورة هو الانتقال من دار إلى دار، "اغتراب" بمصطلح هيجل، والاغتراب بحسب الفيلسوف نفسه هو الحركة الضرورية للانتقال إلى الوعي الذاتي، والسفر بالطبع اغتراب. أنت تكتسب وعيًا جديدًا بوجودك خارج موطنك الأصلي، وعيك بذاتك في الأساس. في عبارة علي ابن أبي طالب الكثير من روح الفلسفة المثالية، من أفلاطون وهيجل.

� وصفت انتقالك لكندا بانقطاع مفاجئ في شريط الصوت والصورة.. هل انقطع وحى الشعر أيضا؟
على العكس، كان لدي نشاط شعري شديد في أول شهور لوصولي إلى كندا. كتبت مجموعة من القصائد بعنوان "قصائد من سيبيريا الغرب". سيبيريا هنا دلالة على فكرة المنفى مُستلهمة من سيرة دوستويفسكي بالطبع، وللتماثل بين سهول البرتا الكندية المنبسطة واستبس سيبيريا الروسي. هي إذن سيبيريا لكنّها في غرب العالم بمعنييه الجغرافي والثقافي. واتسعت المجموعة بعد ذلك وخرجت خارج تأملات المهاجر الأولى. وأعتقد أنها تجربة مختلفة بعمق عن تجربة القصائد السابقة كلها، على مستوى اللغة والتجريب وفهم الشعر نفسه. بالتأكيد لم تعد المؤثرات هي نفسها، وتغير المشهد وشريط الصوت كما قلتَ. كما إن القاهرة في الخلفية لم تعد هي قاهرة 1990 ولا قاهرة 2009. معظم هذه القصائد الجديدة نشرت في مجلات ومواقع ثقافية مختلفة (ومنها أخبار الأدب). لكن لم يحن الوقت لإصدارها في كتاب بعد. فالتجربة لا تزال في حالة صيرورة، وأنا أهتم بإنجاز كتب أخرى حاليًا، لها الأولوية لاكتمالها النسبي.

� الشعر في القاهرة والسرد في كندا.. إلى أي درجة تصح هذه الرؤية بالنسبة لك؟ وبشكل عام هل توجد مدن تحض على الكتابة؟
لا فضل لمدن على مدن فيما يخص الكتابة، شريطة أن توفر لنفسك الوقت اللازم لها. وقد يكون توفير ذلك الوقت أصعب بشكل ما في القاهرة، لا سيما إن كنت تعمل في وظيفة أخرى، وهو ما يفعله معظم المبدعين لدينا من أجل كسب العيش. فغير ساعات العمل الرسمية، أنت تُضيع ساعات في طرق الذهاب والرجوع، سواء أأخذت المواصلات أو كنت تقود سيارة خاصة، وبعد هذا تكون تصفية الذهن وتوفير الحد الأدنى من الراحة الجسدية للجلوس ثانية إلى الكتابة عملية صعبة. من الطبيعي أن يكون معدل إنتاجي الأدبي في القاهرة أقل منه في كندا إذ كنتُ أعمل في وظيفتين بجانب كوني كاتبا. في كندا تفرغت في البداية بشكل شبه كامل للكتابة إلى جانب ممارسة الترجمة من البيت. كان لهذا صعوباته المادية بالطبع، خاصة وأن المؤسسات التي تترجم لها تتأخر عادة في دفع المستحقات. ولا أتكلم هنا عن دور النشر التي تنشر الأدب فقط، فأنا أمارس أنواعًا أخرى من الترجمة، كترجمة البحوث الاجتماعية أو المقالات الاقتصادية لمؤسسات ومواقع اليكترونية مختلفة.


� يقول ظهر الغلاف نقلا عنك أنك تعتبر نفسك قاصا يقترف الشعر أحيانا.. ربما كانت تلك رؤية قديمة إلى حد ما.. كيف تصنف نفسك الآن؟
لا زلت متمسكًا بهذه المقولة. لا أعتبر نفسي شاعرًا "بدوام كامل". ولا أستطيع حقيقة ولا أرغب في أن أتبوأ هذا المكان الفخيم. وإن كان هناك ما يمكن أن نسميه "يوم القيامة الأدبي" فأنا افضل أن أقف في طابور العرض الإلهي خلف بشر متواضعين كيحيى حقي ونجيب محفوظ والطيب صالح ومحمد شكري وإبراهيم أصلان وعلاء الديب على أن أقف في طابور الشعراء خلف رجال كمحمود درويش أو أدونيس أو عبد المعطي حجازي، مع احترامي للجميع. لفظ اقتراف أو ارتكاب هنا مقصود تمامًا. فالشعر، بشكل ما، جريمة تطاوُل على اللغة والمنطق والوجود الإنساني نفسه، جريمة لا بد منها لعلاج هذه الأمور كلها. نوع من إراقة محمودة للدماء كما في الحجامة والطب الشعبي. ولهذا كانت المسافة دائما قريبة بين الشاعر والمشعوذ، منذ الشاعر الجاهلي الذي كان يزعم أنه يتلقى الوحي من شيطان ما، وحتى ريمبو الذي أراد التشويش المطلق للحواس. ترجمت عبارة "أنا كاتب يقترف الشعر أحيانًا" بالإنجليزية لبعض الكتاب الكنديين والأمريكان ممن تعرفت إليهم هنا، ففهموها تماما، لدهشتي، دون كثير شرح!


� هناك من يرفض تصنيف ما تكتب تحت مسمى معين.. كتابة عابرة للنوع كما يقال، كيف تنظر أنت لهذه المسألة؟

لا اتفق تمامًا مع هذه الرؤية، قصص مجموعة "يونس في احشاء الحوت" هي قصص قصيرة، وقصائد العطلة هي قصائد وفق تصوري عن الشعر، وقانون الوراثة رواية وإن داخلتها عناصر من السيرة الذاتية، لكن التقطيع والحذف والتقديم والتأخير كلها تقنيات سردية تخصّ فن الرواية، حتى ما هو حقيقي وسيَّري فيها لم يعد كذلك بخضوعه لهذه اتقنيات وللمعايير الجمالية التي يفوق حضورها هنا حضور حسّ الشهادة على العالم والتأريخ للذات الأساسيين في كتابة السيرة. ونفس الشيء يصدق على كتاب يونس. ربما تصدق مقولة العبر نوعية على كتاب "في الإقامة والترحال" هي كانت تجارب سردية شرحت ظروفها في أكثر من مناسبة، بعضها يصلح كقصص قصيرة وبعضها أقرب لما كان يسمى قديمًا أيام المازني "صورة قلمية"، وبعضها أدخل في باب المقال الأدبي. يمكن أن ينطبق هذا التعريف أيضًا على أول نص في مجموعة "ناس وأحجار".

� الترجمة.. كيف أثرت على مشروعك الإبداعي؟
الترجمة تدريب لغوي شاق. أنت تقلِّب معنى اللفظ على جميع جوانبه لتجد المكافئ الأنسب في اللغة العربية. حقيقةً لغتي في الكتابة أفادت كثيرًا من عملي بالترجمة. غير هذا، فالترجمة تسمح لك بالتأمل في كيفية تأثير الثقافات في بعضها، وتسرّب تراكيب ومجازات من لغة لأخرى، وتحول وانزياح دلالات تاريخيًا وجغرافيًا. مثلا فاللفظة اللاتينية التاريخية قد يتحول معناها في اللغات الأخرى المتفرعة عنها، ليكتسب دلالة في الفرنسية تختلف عن دلالة نفس اللفظ في الإسبانية. وقد تجد نفس الفوارق بين عربية سوريا وعربية مصر ، ولا أقصد هنا اللهجات العامية، وإنما استخدام الفصحى ذاتها بين مختلف الأقطار. بالترجمة تتجدد دماء اللغة بالتأكيد. غير هذا أنا استمتع بمصاحبة الكاتب الآخر الذي أعمل على ترجمته، وهي وسيلة أيضًا لدراسة التقنيات والرؤى المختلفة بينما أنت تعمل.

� رغم إقامتك فى كندا إلا أنك متابع جيد للإنتاج الأدبي في مصر كما أظن، من خلال الورش التي تنظمها والفعاليات التي تحضرها كيف تنظر لواقع الكتابة في مصر الآن؟
انتهت علاقتي بورش الكتابة منذ سافرت في 2009. متابعتي للانتاج الأدبي في مصر تحدث من خلال الانترنت: المواقع الأدبية، والقراءة عن أحدث الإصدارات، ومتابعة منشورات الفيسبوك بالطبع. في مصر، كما في العالم العربي رواج كبير لفكرة "الرواية". إقبال على كتابتها، دفعت إليه الجوائز العربية الضخمة والجوائز المحلية المتوسطة والصغيرة. وإقبال على استهلاكها، ولا أقول قراءتها. مع ذلك أرى تميزًا أكثر في مغامرات القصة القصيرة وأشكال الكتابة الخارجة عن التصنيفات التجارية المعتادة حتى بعيدًا عن فكرة "عبر النوعية" التي ذكرتها أنت، والتي تخصّ زمنًا معينًا تحديدًا ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والهيمنة النقدية للراحل إدوار الخراط. وهناك أيضًا انتعاش في الشعر الجديد خاصة قصائد النساء، هناك مجموعة جيدة جدًا من الشاعرات الجديدات في تفوق كمي وكيفي على نظرائهم من الشباب.
 •  0 comments  •  flag
Published on June 26, 2018 19:40 Tags: جديد-شعر-ياسر-عبد-اللطيف

June 22, 2014

ياسر عبد اللطيف في الإقامة والترحال: فوق الشهادة بقليل، تحت الأدب بقليل حوار: نائل الطوخي

من الصعوبة بمكان محاولة تصنيف عمل ياسر عبد اللطيف. هو الكاتب الذي يكتب الرواية والقصة والشعر، يكتب المقالة والشهادة، بدون الشعور بمزاج مختلف بين كل هذه الأنواع. دوما ما يكون الموضوع متجانساً، نوع واحد من الماء يسري بين نصوصه. مؤخراً فاز عبد اللطيف بجائزة "كبار الكتاب" في فرع القصة القصيرة عن كتابه "يونس في أحشاء الحوت"، وتلاه كتابه "في الإقامة والترحال"، الذي جاء عنوانه الفرعي "قصص وحكايات". كان لأخبار الأدب هذا الحوار معه.
لم يكن سهلاً الالتقاء بياسر أثناء وجوده في القاهرة. ظروف محددة حالت دون هذا. تم الاتفاق إذن على اللقاء على الفضاء الإلكتروني فور وصوله إلى كندا. في الموعد المحدد ثار سؤال إن كان الحوار سيتم كلاماً، عن طريق السكايب، أو كتابة عن طريق الفيسبوك. اختار هو الفيسبوك لأنه أفضل في التعبير عن نفسه بالكتتابة أكثر من الكلام. هذا يلقي الضوء على شخصيته، هو الخجول الذي لا يتحدث إلا قليلاً ومع الأصدقاء الأكثر حميمية. "الخجول" ليست كلمة مناسبة. ربما الأصح "الذي يبدو خجولا"، من الوهلة الأولى ولدى القراءة الأولى.
كتابه الأخير "في الإقامة والترحال"، والصادر عن دار الكتب خان، يجمع حكايات شخصية ومقالات وشهادات يسري هي أيضاً بينها نفس الماء. نصوص الكتاب كانت تُكتب بشكل أسبوعي للنشر الصحفي، وكل أسبوع كان يقرر طريقاً ما في السرد. سواء عن طريق التخييل أو باستدعاء ذكريات من الماضي القريب أو البعيد، وكل هذا مشروط بمساحة لا تتجاوز الـ800 كلمة. هناك قصتان متخيلتان بالكامل في هذا الكتاب، قصة "احتراق الملف الأصلي"، وقصة "قطار أرياف"، أما في سائر النصوص، فبحسب تعبير ياسر، فالخيال يكمل فيها فجوات الحكي.
هل هذه هي وظيفة الخيال في نصوص ياسر المعتمدة على الذاكرة، إكمال فجوات الحكي؟ يبدو أن للموضوع بعداً جمالياً آخر. في قصة من مجموعة "يونس في أحشاء الحوت"، يلتقي ياسر بوسيطة روحانية، تخبره بأشياء مذهلة عن أهله، هذا ما حدث في الواقع كما يقول. قالت له إن عمه في المستشفى الآن يقوم بعملية وأنه سوف يقوم منها، وقد كان. ولكن القصة تنتهي بأن تطلب منه الوسيطة زيارتها في لندن وتطلب منه دفع مقابل مالي لقاء استكمال الجلسة. تقول "انا بكسب عيشي في لندن كدا يا حبيبي". هكذا تنتهي القصة، أما ما حدث في الحقيقة، فهو أن أخت الوسيطة هي من أفهمت ياسر إنه لو طلب جلسة حقيقية فسوف يضطر لدفع المال.
لماذا غير هذه النهاية إذن؟
يجيب بسخرية: "تفتكر انهي تصلح قفلة أحسن؟!"
ثم يستطرد: "المعيار جمالي بالأساس. إذا كنت تكتب شهادة فأنت ملتزم أخلاقياً بالإبقاء على الحقيقة كما حدثت، ولكن في كل الأحوال يمكنني التعديل من أجل ضبط نبرة الحكي. أعتبر نفسي كاتب أدب بالأساس، حتى لو كان النص شهادة من الذاكرة. مثل نص "فيلسوف في المقابر"، والذي يحكي قصة شخص قرآني يعيش في المقابر، ونشر ضمن الكتاب الأخير". يعمل ياسر عبد اللطيف دائماً على مزيج خاص من الذاكرة والتخييل. يحدده بإنه 60 أو 70 في المائة من الذاكرة والباقي تخييل.
نص الذبذبات الرقيقة
شغل ياسر لفترة طويلة الفارق بين الصيغة الرقمية والصيغة العادية للملفات، منذ أيام عمله في الفيديو. وصل لقناعة إن الإم بي ثري هو وسيط حقير. في الكتاب الأخير يحكي قصة موسيقاه المفضلة التي يضطر لحملها معه كلما سافر إحدى سفراته الطويلة. مع الثورة الرقمية، تمكن من الاحتفاظ بـ16 جيجا بايت من موسيقاه المفضلة على جهازه المحمول، وذلك حتى أخبره أحد أصدقاءه أن نقل الأغنية من شريط الكاسيت إلى الصيغة الرقمية يضيع آلاف الذبذبات الرقيقة التي من دونها تفقد الموسيقى عمقها الصوتي. الفارق لا يمكن ملاحظته عند الاستماع، ولكن، بحسب تعريف الصديق، فهو الآن يستمع إلى شبح الموسيقى وليس إلى الموسيقى نفسها، بما يعني أن أرشيفه ميت. هذه القصة تصلح مجازاً عن كتابة ياسر عبد اللطيف أيضاً، الكتابة التي تكتسب عمقها من آلاف الذبذبات الرقيقة التي لا يمكن تعريفها ولا "وضع اليد عليها". إذا مددنا المجاز على استقامته فيمكن لنا التفكير في أن جهاز الذاكرة الخاص بياسر هو جهاز التقاط شديد الحساسية، ما الذي يلتقطه هذا الجهاز ولا يلتقطه جهاز آخر؟ لا يمكن شرح هذا باستخدام تعريفات دقيقة.
طيب، لو كان ياسر يرى أن هناك فارقاً بين الشهادة والمقال، فلماذا وضع النوعين في كتاب واحد؟ يجيب بأن "هذه النصوص هي تجارب أدبية، وهذا هو المهم بالنسبة لي، تجارب في السرد، ولا يعنيني كثيراً مطابقة المحتوى للواقع التاريخي، حتى لو كان النص شكله أقرب للشهادة التاريخية. يمكنك أن تعتبرها تجارب تحت الأدب بقليل وفوق الشهادة بقليل".
وهل فكرت في حدود التعديل داخل الشهادة؟
"أنت تلجأ لكتابة الشهادة لأن هناك شيئاً قويا حدث في الواقع وتريد تسجيله، وهذا هو قلب فكرة الحكاية، يمكن بعدها اللعب في التفاصيل الفرعية إن لم تكن مثلي ملتزما بسرد الحقائق كما كانت".
ما بين الأنواع
في عام 95 نشر ياسر ديوانه "ناس وأحجار"، والذي نفد وتستعد دار الكتب خان لإعادة طبعه مجدداً، وفي عام 2002 نشر روايته "قانون الوراثة"، تلاها نشر ديوانه "جولة ليلية"، في 2009، ثم مجموعته القصصية "يونس في أحشاء الحوت"، هكذا بدأ بكتابة الشعر، ثم تخطاه سريعا إلى الرواية، ثم كتب قصصا قصيرة، وعاد إلى الشعر. في هذا مفارقة، فالتسعينيات قد تميزت بالفصل الصارم بين النوعين، الشعر والسرد، كان لكل نوع أدباؤه اللامعون. من البداية كان ياسر يكتب النوعين، لم يكن لديه ذلك الفصل الحاد. كان يكتب القصة من البداية ولكن مع بدايات قصيدة النثر وجد إنها ليست مختلفة تماما عما يكتبه فقرر تجربة نفسه فيها. يعتقد هو أن الفصل الحاد بين الجنسين لم يبدأ مع التسعينيات وإنما مع نجيب محفوظ. قبل محفوظ كان كتّاب مثل العقاد والمازني يكتبون أنواعا مختلفة من السيرة والسرد والشعر بحرية أكبر. ولكن ظهور الرواية بالنمط المحفوظي، وكون محفوظ كان ينشر رواية كل سنة، أدى إلى الفصل بين ما هو شعري وماهو سردي. لم يكن هناك تنظير ساعتها حول هذا الموضوع، وإنما تمت الأمور بشكل تلقائي. يستدرك ياسر قائلاً إنه ربما قرأ عن محاولة لرفع قيمة القص فوق قيمة الشعر، وعن محاولة لإضفاء قيمة أرفع على المقال، نظرا لأن القص والمقال كانا يعنيان أكثر بالنقد الاجتماعي وكشف تناقضات المجتمع. كتابات سيد قطب وأنور المعداوي كما يتذكرها كانت معنية مثلا بهذه الناحية.
طيب، تقول أنه لم يكن لديك ذلك التمييز الدقيق بين السرد والشعر، إذن متى تكتب السرد ومتى تكتب الشعر؟
الموضوع هو ما يملي شكله، ولكن بالنسبة لي فكتابة السرد أسهل كثيراً، وبين فراغات السرد تتولد القصائد عندي. هذا يحدث في وقت الكتابة الطويل وليس الوقت الفعلي، أي في الوقت الذي يستغرقه الكتاب منذ التفكير فيه وحتى تنفيذه. ربما يكون الفارق الأساسي بين السرد والشعر يكمن في وظيفة اللغة. اللغة في السرد لها وظيفة محددة وهي أن تسرد، أما في الشعر فتكون اللغة محملة بطاقات وحدوس وعلاقات أخرى مختلفة عن علاقة السببية. هذا لا ينفي وجود العوامل الأخيرة في السرد، ولكنها لا تحدث بنفس الكثافة لدى كتابة القصيدة.
وعندما قلت أنه لم يكن عندك فارق بين الشعر والسرد، هل كنت تقصد أن لديك هاتين الحساسيتين ناحية اللغة؟
أعتقد. وشكل قصيدة النثر بالتحديد كما تطورت في التسعينيات لم تكن بعيدة تماما عن فن السرد. كانت قصيدة حكائية بالأساس.
المفارق هو الانسجام بين جميع ما يكتبه ياسر. ربما لأنه في جميع الفنون التي يمارسها، يبدو ميالاً لقيمة الرهافة في مقابل قيمة الإدهاش. حتى حكاياته العجيبة يحكيها وكانها شيء عابر. هذا يجعل من كتابته شيئا قابل للإعجاب من المرة الثانية، هي ليست الكتابة الصاخبة التي تدهشك للوهلة الأولى، وإنما الكتابة ذات المزاج الرائق والحساس، والجاهز لالتقاط آلاف الذبذبات الصوتية التي لا يمكن التعبير عنها بالكلام. يوافقني على هذا ويخبرني إن كثيراً من قراء "يونس في أحشاء الحوت"، قد أحبوا المجموعة من القراءة الثانية وليس الأولى.

تكريس الكاتب
في الأسابيع الماضية حدثت ثلاثة أشياء، فاز ياسر عبد اللطيف بجائزة ساويرس لفرع كبار الكتاب، ووأعد موقع "كتابة" ملفاً كاملا عنه، كما صدر له كتابه الأخير. السؤال هنا. هل يشعر بأنه أصبح كاتباً مكرساً، وما الذي يعنيه التكريس بالنسبة له؟
في البداية يقول إن الجائزة كان لها فضل تسليط الضوء على مجموعة "يونس في أحشاء الحوت"، التي يرى أنها ظُلمت نسبياً وقت صدورها.
"لا أعتقد إن ساويرس تكرس للكتاب بالمعنى السلبي. ولكن الثابت هو أنني لم أصبح كاتباً شاباً، لأن هناك جيلان أدبيان جاءا من بعد جيلي. في نفس الوقت أعتقد أن فكرة التكريس كما تعنيها قد ارتبطت دائما بعلاقة الكاتب بالمؤسسة الثقافية الرسمية، وليس لها علاقة بكتابة الكاتب نفسه. مثلا ثروت أباظة ظل لعقود هو الوجه المعبر عن الأدب على الرغم من أنه لم تكن له علاقة فعلية بالواقع الأدبي. ولكن التزامن بين الجائزة وملف كتابة كان مخيفاً لي بعض الشيء. خاصة أن الملف كان يتم إعداده من قبل ظهور نتيجة الجائزة بوقت طويل. حتى أهرب من هذا الارتباك كنت أقول لنفسي "الفقي لما يسعد". ربما أكون من النوع الذي يرتبك عندما يكون في بؤرة الضوء. يضاف لذلك بالطبع أن فكرة التكريس فكرة مربكة بالنسبة لنوع من الكتابة تربى في الهامش.
في نفس الوقت فالكتابة مهنة مرتبطة بالضوء. لماذا ينشر الكاتب ما كتبه إن كان يخاف من الضوء؟
الخوف هنا ليس من الضوء بالتحديد وإنما أن تكون كثافة حضور الكاتب نوعا من الإلحاح السخيف على القراء، خاصة أن الكاتب يجرب أثر هذا الحضور الملح لدى القراء بالنظر إلى كتّاب آخرين. هذا الإلحاح يترك أثراً سخيفاً على الملتقين. ليس فقط أن المتلقين يملون الكاتب ولكن يتحول الموضوع إلى نوع من عدم التعاطي الجاد مع المنتج. بالطبع ليست لدي مشكلة مع اتساع رقعة القراء. ولكنني قد أرتبك لو كان عليّ حضور ندوتين ولقاء تليفزيوني وحوار صحفي. الكاتب وفقا للكليشيه المعتاد هو كائن في الظل، حتى لو أصبح قراؤه بالآلاف. لأن الكاتب ببساطة غير مضطر للتواجد الإعلامي المكثف، على النقيض مثلا من الممثل أو لاعب الكرة.
3 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on June 22, 2014 22:19

June 16, 2014

وكأني زرتُ هذه المدينة مِرارا

بينما أُدرِّسُ اللغة العربية لسيدة أجنبية في الخمسين ـ وإن كانت تبدو أصغر من ذلك بكثير ـ سرحتُ مع ذراعها الأبيض الطويل وارتكزت عيناي على شامةٍ صغيرةٍ سمراء بتلك الصفحة الناصعة المشربة بالحمرة.. استغرقني النظر إلى الشامة فرأيت صفحة الذراع طريقاً والشامة هي رأسي تسير فوق ذلك الطريق، وأنا أشرف من مكان علوي على المشهد البعيد وكأن بيني وبين نفسي غيوم.. أراقب نفسي من علٍ بإحساس بالشفقة عليها، بتعال ميتافيزيقي.. ووصلت في نهاية الطريق بلدةً صغيرةً، خُيِّل إليّ أنني زرتها قبل ذلك مراراً. بيوت البلدة صغيرة، لا تعلو أسوارها طول قامة الإنسان، تنبثق من داخلها أشجارٌ ترمي ظلالها على الشوارع الرملية الضيقة التي تتخلل البيوت. كل البيوت بيضاء، أبوابها وشبابيكها مطلية بألوان وقورة.
كأنني في إجازة طويلة؛ طالت حتى صارت قانوناً، وبدت وكأنه لا نهاية لها. وكنت لا أحمل لذلك هماً. أعيش في تلك البيوت الوادعة مع قوم كما لو كانوا أعماماً أو أخوال. يدخلون عليّ بالطعام والشراب، ولا يخلو الأمر أحيانا من قليل من النبيذ. يبتسمون في وجهي، ونتبادل حوارات خفيفة حول الطقس ومدى جودة الطعام و عدد ساعات النوم طالت أم قصرت. وكنت أجد نفسي متنقلاً من بيت إلى آخر متى عنّ لي ذلك، وبي زهد في أن أستفسر عن أي شيء.. لا زلت أتذكرهم: ذلك السمين الضاحك، والسيدة العجوز ذات الشعر الرمادي، والتي فكرت بيني وبين نفسي أنها ربما تكون مسيحية. وتلك الفتاة، صديقتي، لساعات طويلة كانت تجلس معي بالغرفة التي أعدّوها لي في بيتهم لتشتكي لي من عدم استطاعتها الزواج من الشاب الذي تحبه. وكانت تلامسني طالبة الحنان، ولم أكن لأبخل بتلك المشاعر، مع زيادات من عندي لا تخرجني عن طوري كمجرد مستمع للشكوى. فكرت أن هذا المكان لم يكن الجنة إذ تعجز هذه الفتاة عن الزواج من حبيبها.
وفي صباح أحد الأيام التي لا تنتهي استيقظت نشيطاً في منزل السيدة ذات الشعر الرمادي، وتناولت إفطاراً شهياً من بيض مقلي وخبز وعسل نحل مع كوب من القهوة الثقيلة بالحليب، وقررت أن أخرج لأزور القصر. كنت قد عثرت عليه مصادفةً في أولى جولاتي بالبلدة، إذ كنت أسير في شارع شبه رئيسي متسع، البيوت على جانبيه أكبر قليلا من البيوت الأخرى التي ألفتها بأرجاء المدينة مع احتفاظها بالطابع نفسه للأسوار والحدائق، وبينما كنت أتأمل تلك الفوارق انحرفت في أحد الشوارع الجانبية الصغيرة، ثم انحرفت مرة أخرى في شارع مواز للشارع المتسع الذي كنت أسير فيه، فإذا بي مباشرة أمام القصر. لم يكن قصراً بالمعنى الذي قد يتبادر إلى الذهن عندما تذكر القصور، أي قباب وردهات ذات عقود وأقواس، لكنه كان مجرد فيللا كبيرة نوعاً ما على طراز أوروبي غير معين. كان الشارع خالياً إلا من ذلك القصر، جانباه محفوفان بأسوار لحدائق مغلقة لاشخصية لها من كثرة ما بتلك المدينة من الحدائق، وغير القصر لم يكن هناك أي أثر لبيت آخر. وبدا الشارع كما لو كان شارعا خلفياً للشارع الرئيسي الذي كنت أسير فيه قبلها بلحظات. وقفت أتأمل القصر من على الرصيف المقابل. كان ساكناً مغلق الشرفات والنوافذ. وسوى تغريدة لبلبل أو شقشقة عصفورين يتشاكسان على أغصانه الوارفة لا تسمع أي صوت يصدر من داخله، ومع ذلك لم يكن يبدو مهجوراً، وقدرت أن سكانه كباقي أهل البلدة هادئون إلى تلك الدرجة التي لم نعهدها في القاهرة. ولما كان متاحاً لي أن أزور كل البيوت دون حرج فقد قررت أن أؤجل زيارة القصر إلى وقت لاحق، ومضيت مواصلاً جولتي يدفعني الفضول لاكتشاف المدينة.. ولأرجعن ذات يوم إلى ذلك القصر وأزور سكانه وربما قضيت بينهم بعض أيامي هنا. وها أنا في هذا الصباح الرائق أقرر زيارة القصر واكتشاف أي نوع من الناس يسكنونه.
خرجت بعد تناول إفطاري وتبادل الأحاديث الصباحية المعتادة مع السيدة ذات الشعر الرمادي. بعد مسيرة ما يقرب من عشرين دقيقة وصلت إلى المنطقة التي كنت قد وجدت بها القصر، وأخذت أبحث عن الانعطافة التي ولجت منها إلى ذلك الشارع الخلفي الذي يقع به، لكني لم استطع تحديدها. وفي كل مرة كنت انعطف من الشارع الرئيسي كانت الشوارع الفرعية تقودني إلى شارع رئيسي آخر مواز، ولم استطع أبداً العثور على ذلك الشارع الخلفي الذي يقع به القصر.. قدرت أنه يقع قطعاً بين الشارعين الرئيسيين . وبعد وقت طويل استطعت أن أرى السقف القرميدي الأحمر للقصر يلوح مرتفعاً خلف بعض البيوت، وهكذا فكرت أني استطعت أخيراً الوصول، ولكني أيضاً لم استطع العثور على الانعطافة التي تقودني إليه. وهكذا أخذت أجرب كل الشوارع الفرعية التي تصل ما بين الشارعين الكبيرين ولكن دون جدوى. كان القصر يفر من يدي كلما ظننت أني اقتربت من الوصول إليه. تذكرت الحكمة القديمة: أن من يسأل لا يتوه، فسرت باحثاً في الشارع الرئيسي عن أي شخص أسأله عن كيفية الوصول إلى القصر، في مكان يبدو البحث فيه عن شخص يسير بالطريق كالبحث عن الحقيقة. وفي النهاية وجدت بناصية أحد الشوارع الفرعية كشكاً يبيع الجرائد. وللمرة الأولى أصادف ذلك الاختراع الورقي الذي يدونون فيه التاريخ اليومي والمنفلت بصدقه وكذبه في تلك المدينة. سألت صاحب الكشك عن الطريق إلى القصر، لم يرد على سؤالي و قال لي أنهم للتو حرموه من عشرة قروش من دخله اليومي هي مكسبه في ثمن جريدة واحدة.. فقلت له كيف هذا.. فأجابني بأن أحدهم قد جاء إليه بيدين ملطختين بالدماء يطلب جريدةً ليغطي بها جثة رجل قتلته سيارة مسرعة، ولم ينتظر الرجل جوابه وجذب جريدة ومشى. قلت له ما هذه القسوة اتغضب من أجل عشرة قروش سيغطى بها رجل مات، وتغطية الجثث لها ضرورة دينية وأخلاقية وفوق ذلك هي رحمة للمارة من أن تتأذى أعينهم من رؤية الأشلاء.. فقال لي أن قوت أولاده فوق تلك الاعتبارات وأغلق باب الحوار نهائياً.. وبدا أنه لن يجيب أبداً عن سؤالي عن القصر.. طفا حينئذ إلى سطح اهتمامي شأن الجرائد التي يبيعها.. ما نوعها، وأسماؤها وعناوينها الرئيسية.. سحبت جريدةً لأطالع عناوانيها فإذا بي لا أستطيع القراءة وإن كنت أميز حروف العربية.. كانت الكتابة غائمة كما لو كان بعيني بعض الزيغ، فقربت الصحيفة من عيني فإذا بالكتابة تزداد انطماساً كما لو كنت انظر إليها من خلال الماء.. لم أكد أواصل محاولاتي للقراءة حتى جذب مني البائع الجريدة بعنف وردها إلى مكانها على طاولة البيع، وللمفاجأة صار الكلام واضحاً، واستطعت أن أميز بعض المفردات، إلا إن نظرات البائع وسلوكه الفظ كانا يرغمانني على مغادرة المكان، فلم تكن تبدو عليَّ أي نية للشراء.. وفوق ذلك لم أكن من الأصل أحمل نقوداً.



(جزء من رواية تحت الإنشاء)
6 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on June 16, 2014 18:49