ŷ

بعد قصائد العطلة الطويلة: ياسر عبد اللطيف: الشعر جريمة تطاوُل علي اللغة والمنطق والوجود الإنساني! حوار مع أسامة فاروق

� كثيرون يرفضون إعادة النظر في تجاربهم الأولى، يفضلون أن تظل متوارية، خاصة إذا تحقق الكاتب في مجال آخر، أو حتى شكل كتابي آخر. لكنك على العكس تخرج أعمالك القديمة، لتعطيها فرصة أخرى تحت الشمس. عندي أسئلة في هذه النقطة، أو ربما هو سؤال واحد بصيغ مختلفة:
- ألا ترى أن تجميع الأعمال خطوة مبكرة بالنسبة لك؟
- هل هي تجربة مكتملة لن تعيدها فقررت حفظها في كتاب؟
- هل هي استدعاء للشعر أم وداع له؟

لا شيء من هذه الاحتمالات كلها. فما أحذفه من عملي أحذفه نهائيا ولا أعود إليه. هنا الأمر مختلف، فمن الطبيعي أن يُعيد كاتبٌ طباعة أعماله القديمة خاصة إذا كانت الطبعات السابقة محدودةً وقد نفدت ولم تصل للقراء الحاليين. الكتاب الجديد "قصائد العطلة الطويلة" يضم قصائد مجموعتي "ناس وأحجار" 1995، و"جولة ليلية" 2009، إضافة لبعض القصائد التي كتبت بين الديوانين ولم تنشر في كتاب من قبل، وإن كان نشرت بالفعل في بعض المجلات كـ "الكتابة الأخرى" وغيرها... أنا لا أعتبرها قصائد قديمة ماتت ويجب نسيانها. هي قصائد تمثلني في لحظات ماضية. لا تزال تلك اللحظات فاعلة بشكل ما، وقابلة للاستحضار، ولا تزال القصائد صالحة للتداول (من وجهة نظري على الأقل).

� الفترة من 92 وحتى 2009 هي الفترة التي شهدت تجاربك الأولى، معافرتك مع الحياة في القاهرة، شكلت الكثير من شخصيتك، كما أكدت فى كتابات تالية، لم تكن عطلة بالتأكيد.. لماذا إذن هذا العنوان؟ أم أنها عطلة بالنسبة لما أنت فيه الآن؟

هناك قسم من ديوان "ناس وأحجار" بعنوان" قصائد من العطلة" وهناك قصيدة في هذا القسم تحمل عنوان "العطلة" الفكرة في هذه القصيدة كانت تحمل تصوري عن الشعر وقتها بكل سذاجة البدايات وبراءة الصور. كنت وقتها أتصور أن الشعر "يشعُّ" في لحظات عُطلة ذهنية، عندما تكفّ الأفكار عن الترابط بشكل منطقي وتظهر لها علاقات ووشائج حدسية أو غير مباشرة. وكنت وقتها بدأت بالفعل في كتابة رواية "قانون الوراثة". وكتابة نص سردي تستدعي أشكال من التخطيط والهندسة وبعض البحث، كنت أجد في الشعر تحررا من تلك الالتزامات الذهنية. أنهيت ديوان ناس وأحجار وقتها في نهايات 1994، ولم انته من قانون الوراثة إلا عام 2000 على الرغم من حجمها الذي لم يتجاوز 100 صفحة. ولم تنشر قبل يناير 2002.
أما هنا، ومع هذا الكتاب الاستعادي، إن صحت التسمية، فالعطلة تشير لمجمل ما يمكن أن تسميه "تصوري عن الأدب والكتابة" ما قبل السفر ومغادرة القاهرة. في حوار مع الصديق أحمد شافعي حول نفس النقطة قلت له إنني استلهم هنا بشكل ما مقولة علي ابن ابي طالب "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا" فكأني أقول "الناس عاطلون، فإذا سافروا بدأ العمل". وهو مفهوم يخصني بالطبع. الموت في الإسلام وعند علي ابن أبي طالب بالضرورة هو الانتقال من دار إلى دار، "اغتراب" بمصطلح هيجل، والاغتراب بحسب الفيلسوف نفسه هو الحركة الضرورية للانتقال إلى الوعي الذاتي، والسفر بالطبع اغتراب. أنت تكتسب وعيًا جديدًا بوجودك خارج موطنك الأصلي، وعيك بذاتك في الأساس. في عبارة علي ابن أبي طالب الكثير من روح الفلسفة المثالية، من أفلاطون وهيجل.

� وصفت انتقالك لكندا بانقطاع مفاجئ في شريط الصوت والصورة.. هل انقطع وحى الشعر أيضا؟
على العكس، كان لدي نشاط شعري شديد في أول شهور لوصولي إلى كندا. كتبت مجموعة من القصائد بعنوان "قصائد من سيبيريا الغرب". سيبيريا هنا دلالة على فكرة المنفى مُستلهمة من سيرة دوستويفسكي بالطبع، وللتماثل بين سهول البرتا الكندية المنبسطة واستبس سيبيريا الروسي. هي إذن سيبيريا لكنّها في غرب العالم بمعنييه الجغرافي والثقافي. واتسعت المجموعة بعد ذلك وخرجت خارج تأملات المهاجر الأولى. وأعتقد أنها تجربة مختلفة بعمق عن تجربة القصائد السابقة كلها، على مستوى اللغة والتجريب وفهم الشعر نفسه. بالتأكيد لم تعد المؤثرات هي نفسها، وتغير المشهد وشريط الصوت كما قلتَ. كما إن القاهرة في الخلفية لم تعد هي قاهرة 1990 ولا قاهرة 2009. معظم هذه القصائد الجديدة نشرت في مجلات ومواقع ثقافية مختلفة (ومنها أخبار الأدب). لكن لم يحن الوقت لإصدارها في كتاب بعد. فالتجربة لا تزال في حالة صيرورة، وأنا أهتم بإنجاز كتب أخرى حاليًا، لها الأولوية لاكتمالها النسبي.

� الشعر في القاهرة والسرد في كندا.. إلى أي درجة تصح هذه الرؤية بالنسبة لك؟ وبشكل عام هل توجد مدن تحض على الكتابة؟
لا فضل لمدن على مدن فيما يخص الكتابة، شريطة أن توفر لنفسك الوقت اللازم لها. وقد يكون توفير ذلك الوقت أصعب بشكل ما في القاهرة، لا سيما إن كنت تعمل في وظيفة أخرى، وهو ما يفعله معظم المبدعين لدينا من أجل كسب العيش. فغير ساعات العمل الرسمية، أنت تُضيع ساعات في طرق الذهاب والرجوع، سواء أأخذت المواصلات أو كنت تقود سيارة خاصة، وبعد هذا تكون تصفية الذهن وتوفير الحد الأدنى من الراحة الجسدية للجلوس ثانية إلى الكتابة عملية صعبة. من الطبيعي أن يكون معدل إنتاجي الأدبي في القاهرة أقل منه في كندا إذ كنتُ أعمل في وظيفتين بجانب كوني كاتبا. في كندا تفرغت في البداية بشكل شبه كامل للكتابة إلى جانب ممارسة الترجمة من البيت. كان لهذا صعوباته المادية بالطبع، خاصة وأن المؤسسات التي تترجم لها تتأخر عادة في دفع المستحقات. ولا أتكلم هنا عن دور النشر التي تنشر الأدب فقط، فأنا أمارس أنواعًا أخرى من الترجمة، كترجمة البحوث الاجتماعية أو المقالات الاقتصادية لمؤسسات ومواقع اليكترونية مختلفة.


� يقول ظهر الغلاف نقلا عنك أنك تعتبر نفسك قاصا يقترف الشعر أحيانا.. ربما كانت تلك رؤية قديمة إلى حد ما.. كيف تصنف نفسك الآن؟
لا زلت متمسكًا بهذه المقولة. لا أعتبر نفسي شاعرًا "بدوام كامل". ولا أستطيع حقيقة ولا أرغب في أن أتبوأ هذا المكان الفخيم. وإن كان هناك ما يمكن أن نسميه "يوم القيامة الأدبي" فأنا افضل أن أقف في طابور العرض الإلهي خلف بشر متواضعين كيحيى حقي ونجيب محفوظ والطيب صالح ومحمد شكري وإبراهيم أصلان وعلاء الديب على أن أقف في طابور الشعراء خلف رجال كمحمود درويش أو أدونيس أو عبد المعطي حجازي، مع احترامي للجميع. لفظ اقتراف أو ارتكاب هنا مقصود تمامًا. فالشعر، بشكل ما، جريمة تطاوُل على اللغة والمنطق والوجود الإنساني نفسه، جريمة لا بد منها لعلاج هذه الأمور كلها. نوع من إراقة محمودة للدماء كما في الحجامة والطب الشعبي. ولهذا كانت المسافة دائما قريبة بين الشاعر والمشعوذ، منذ الشاعر الجاهلي الذي كان يزعم أنه يتلقى الوحي من شيطان ما، وحتى ريمبو الذي أراد التشويش المطلق للحواس. ترجمت عبارة "أنا كاتب يقترف الشعر أحيانًا" بالإنجليزية لبعض الكتاب الكنديين والأمريكان ممن تعرفت إليهم هنا، ففهموها تماما، لدهشتي، دون كثير شرح!


� هناك من يرفض تصنيف ما تكتب تحت مسمى معين.. كتابة عابرة للنوع كما يقال، كيف تنظر أنت لهذه المسألة؟

لا اتفق تمامًا مع هذه الرؤية، قصص مجموعة "يونس في احشاء الحوت" هي قصص قصيرة، وقصائد العطلة هي قصائد وفق تصوري عن الشعر، وقانون الوراثة رواية وإن داخلتها عناصر من السيرة الذاتية، لكن التقطيع والحذف والتقديم والتأخير كلها تقنيات سردية تخصّ فن الرواية، حتى ما هو حقيقي وسيَّري فيها لم يعد كذلك بخضوعه لهذه اتقنيات وللمعايير الجمالية التي يفوق حضورها هنا حضور حسّ الشهادة على العالم والتأريخ للذات الأساسيين في كتابة السيرة. ونفس الشيء يصدق على كتاب يونس. ربما تصدق مقولة العبر نوعية على كتاب "في الإقامة والترحال" هي كانت تجارب سردية شرحت ظروفها في أكثر من مناسبة، بعضها يصلح كقصص قصيرة وبعضها أقرب لما كان يسمى قديمًا أيام المازني "صورة قلمية"، وبعضها أدخل في باب المقال الأدبي. يمكن أن ينطبق هذا التعريف أيضًا على أول نص في مجموعة "ناس وأحجار".

� الترجمة.. كيف أثرت على مشروعك الإبداعي؟
الترجمة تدريب لغوي شاق. أنت تقلِّب معنى اللفظ على جميع جوانبه لتجد المكافئ الأنسب في اللغة العربية. حقيقةً لغتي في الكتابة أفادت كثيرًا من عملي بالترجمة. غير هذا، فالترجمة تسمح لك بالتأمل في كيفية تأثير الثقافات في بعضها، وتسرّب تراكيب ومجازات من لغة لأخرى، وتحول وانزياح دلالات تاريخيًا وجغرافيًا. مثلا فاللفظة اللاتينية التاريخية قد يتحول معناها في اللغات الأخرى المتفرعة عنها، ليكتسب دلالة في الفرنسية تختلف عن دلالة نفس اللفظ في الإسبانية. وقد تجد نفس الفوارق بين عربية سوريا وعربية مصر ، ولا أقصد هنا اللهجات العامية، وإنما استخدام الفصحى ذاتها بين مختلف الأقطار. بالترجمة تتجدد دماء اللغة بالتأكيد. غير هذا أنا استمتع بمصاحبة الكاتب الآخر الذي أعمل على ترجمته، وهي وسيلة أيضًا لدراسة التقنيات والرؤى المختلفة بينما أنت تعمل.

� رغم إقامتك فى كندا إلا أنك متابع جيد للإنتاج الأدبي في مصر كما أظن، من خلال الورش التي تنظمها والفعاليات التي تحضرها كيف تنظر لواقع الكتابة في مصر الآن؟
انتهت علاقتي بورش الكتابة منذ سافرت في 2009. متابعتي للانتاج الأدبي في مصر تحدث من خلال الانترنت: المواقع الأدبية، والقراءة عن أحدث الإصدارات، ومتابعة منشورات الفيسبوك بالطبع. في مصر، كما في العالم العربي رواج كبير لفكرة "الرواية". إقبال على كتابتها، دفعت إليه الجوائز العربية الضخمة والجوائز المحلية المتوسطة والصغيرة. وإقبال على استهلاكها، ولا أقول قراءتها. مع ذلك أرى تميزًا أكثر في مغامرات القصة القصيرة وأشكال الكتابة الخارجة عن التصنيفات التجارية المعتادة حتى بعيدًا عن فكرة "عبر النوعية" التي ذكرتها أنت، والتي تخصّ زمنًا معينًا تحديدًا ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والهيمنة النقدية للراحل إدوار الخراط. وهناك أيضًا انتعاش في الشعر الجديد خاصة قصائد النساء، هناك مجموعة جيدة جدًا من الشاعرات الجديدات في تفوق كمي وكيفي على نظرائهم من الشباب.
 •  0 comments  •  flag
Published on June 26, 2018 19:40 Tags: جديد-شعر-ياسر-عبد-اللطيف
No comments have been added yet.