Hanan Farhat's Blog, page 10
November 7, 2016
يومٌ فارغ
كنت أقول لنفسي، ما الذي يريده العالم منك؟ هل حقاً يعني للناس أن يقرأوا أفكارك؟ هل تستحق حروفك عناء القراءة؟ ثم رأيتني أكتب قبل أن أجد الإجابات.. وفي حين غفلة قرأت: من يكتب ذاته في وقت يكتب غيره في كل الأوقات.
تمّعنت قليلاً فيما يتيسر لي قراءته كل يوم.. ووجدتني أجمع من غير قصد أشيائي الصغيرة التي أدرك بيقين أنني أريدها، وأعيدها على مسمعي كل يوم ولو بهمس عابر لعل يومها يأتي فتتحول حقيقة.
قد يبدو غبياً أن أتمنى يوماً فارغاً من المسؤوليات والأشخاص والأشياء.. فيه ورق كثير، وأقلام أكثر. ألوان شمع، ودلو طلاء.. بل يستحسن لو يكون الورق جداراً كبيراً يمكنني محوه ورسمه من جديد. ثم إنني أتمنى أن أنزل يوماً إلى الشارع. أن أسأل كل طفل مارٍّ إلى أين يذهب.. وكل عجوز عن الخطوط في جبهته، كيف ارتسمت.. وكل رجل مستعجل، وكل امرأة متأففة، وكل شرطي منهمك، وكل عامل نظافة عن القصة التي بدأ بكتابتها يوم وُلِد.
أرغب لو أستمع إلى كل سائق سيارة أجرة، فأجوب معه المدينة وأنا أنظر إلى الأبنية والجدران وعرائش الورد المنتدى المتدلية... وبينما أسرق منه الكلام، أتطلع إلى الحياة بوجهها المكتظ بالقسمات. أحيانا أتساءل كيف لا يتوزع الناس بعيداً عن هذا المكان.. وهل السكان المقيمون هنا يرون كل التفاصيل التي أرى... وهل إذا ما غادروا يبيعون ذاكرتهم أو يستبدلونها بأخرى نظيفة؟ هل يعني المكان شيئاً لساكن المدينة؟ أم إنها الفزاعة التي لطالما كانت هاجس ابن القرية ولذلك يصب تركيزه على ألا تضيع لقمته في شوارعها؟ هل حقا لا تُرسَم الأخلام إلا هنا حيث الضجيج والدخان والزحام؟ أم إن هذه كلها حين تزدحم على الأرض تدفع أحلامنا نحو السماء فتغدو أقرب من التحقق؟
في اليوم الفارغ الذي أتمنى، حيث لا زوايا ولا عقارب ساعة ولا غروب شمس يحدد موعد العودة، أضيف إلى تقاسيمه كتباً كثيرة من غير رفوف... وكلمات أكثر من غير رقيب، وقصص أناس تطفو في الجو من دون خوف أو تردد.. وحكايات جدّات أورثنها لأحفادهنّ.. وسيَر حيوات استحقت أن تُذكر.. وتفاصيل منسية يخبرنا إياها الغرباء فتملأ الفراغات وترمم الشقوق.
ثم أعلم أن يوماً فارغاً لا يأتي إلا بالفراغ، وأن الرغبة بالعمل تنبعث من ضيق الوقت، وأن الصبر لا يأتي إلا في الشدة، وأن الرّخاء بلاء، وأن الإنجاز لا يكون له طعم إلا بعد التعب حد الإنهاك.
بيروت في 2 -11-2016
November 3, 2016
غلطة.. ولا ينفع الاعتذار
وصل ابن السّبع عشرة سنة إلى مفترق طرق. فجأة وجد نفسه مضطرّاً أن يختار بين المجالين: العلميّ أو الأدبيّ تمهيداً لاتّخاذ القرار المصيري بعد سنتين حين يصل أعتاب المرحلة الجامعيّة. وبالطّبع، لم يسمح كبرياء ع.د. له بأن يختار غير المجال العلميّ، فهو "ذكيّ" حسب ما تقول أمّه، ولن يرقى للوظيفة التي يطمح بالوصول إليها إن لم يسِر على هذا النّهج. إدارة المدرسة نصحته بدخول القسم الأدبيّ لأنّه يتناسب مع قدراته أكثر، لكنّه أصرّ على عدم تغيير قراره وإثبات أنّه كُفُؤ. مرّ الفصل الأوّل، فالثّاني.. ثم وَجد ع.د. نفسه يطلب من الإدارة أخذ قدرته على التّحليل والحفظ بعين الاعتبار، ونقله إلى القسم الأدبيّ لأنّ تحصيله الدّراسيّ أثبت جدوى ذلك أكثر!ع.د. استطاع استدراك خطئه في منتصف العام الدّراسيّ، بضريبة مُخَفَّضة اختُصِرت بدراسة مادّتي الرياضيات والفيزياء لمدّة فصلين سابقين دون الحاجة إليهما. لكن ماذا نقول عمّن درس سنوات الجامعة الثلاث (إن لم يكن أكثر)، ثمّ خَلُصَ إلى أنّه أخطأ في الاختيار؟! على من يقع اللوم؟ وهل هناك طريق للعودة؟ في استبيانٍ أجريته على موقع التّواصل الاجتماعيّ فيسبوك لتناول وجهات النّظر فيما يتعلّق بالتخصص الجامعيّ ومدى الرّضى عن العوامل التي تؤدّي إلى اختياره، شارك 146 شخصاً:· 64.4% منهم عمرهم في معدّل العمر الطّبيعي لطلاب الجامعات –عد� طلاب الطّبّ- (18- 23 سنة)· 35.6% منهم يبلغون من العمر أكثر من أربع وعشرين سنة · 95.3% منهم طلاب جامعيون أو خرّيجون (من ضمنهم 24.7% طلاب دراسات عليا)· 4.1% منهم لم يكملوا دراستهم الجامعية بالرغم من انتسابهم إلى الجامعة في البدء· 62.3% منهم ينتسبون إلى الجامعة اللبنانية الدولية· 26% منهم قاموا بتغيير تخصّصهم الجامعيّ � أي 38 شخصاً من 146، (4.8% من النسبة العامة غيّروا تخصصهم أكثر من مرة- أي 7 أشخاص من 146)· 80% منهم يعرفون أكثر من شخص واحد غيّر تخصصه الجامعيّ· تراوحت التخصصات الجامعية للمشاركين في الاستبيان بين جميع المجالات:o هندسة (اتصالات، معمارية، مدنية، ميكانيكية، كهرباء، غاز ونفط، كمبيوتر، مساحة، أدوات طبية، صناعيّة)o علوم، رياضيات، فيزياء، كيمياء o معلوماتية، علوم الحاسوب وتطبيقاتهo صيدلة، طب، تغذية، علوم مختبريةo دبلوم تربية، تعليم اللغة الإنكليزية، ترجمة، اللغة الإنكليزية وآدابهاo علم نفس، شريعة إسلاميةo إذاعة وتلفزيون، تصميم وديكورo إدارة، علاقات عامة، محاسبةمن الملفت للنظر أنّ 53.8% من إجمالي المشاركين اختار تخصّصه بدافع الشّغف، أمّا النسبة المتبقية فتراوحت العوامل المؤثرة في قرارهم بين أسباب مجتمعية، أسباب مالية، توفّر فرص العمل، وضغط الأهل. الأمر الذي يدلّ على عدم توافق ميول نصف الطلاب مع التخصص الذي اختاروه ليكملوا حياتهم فيه علماً وعملاً. لكنّ الإجابات على السّؤالين التاليين أبدت بعض التّعارض مع هذه النتيجة:
نعم لا هل أنت راضٍ عن تخصّصك الجامعي؟ 82% 18% هل تختار تخصّصك مجدداً لو سنحت لك الفرصة بإعادة الاختيار؟ 60% 40%
هذه النّسب تعني أنّ معظم الطّلاب متوافقون مع ذواتهم حتّى وإن كان دافعهم غير حبّ المجال الذي انخرطوا فيه. لكنّ شغفهم بمجالات أخرى يجعل 40% منهم يفكّرون في عدم اختيار وضعهم الحالي لو قُدّرت لهم العودة بالزمن. كما ويُلقي 82.9% منهم باللوم على قصور عمليّة التّوعية بالمجالات والتخصصات (مستند 1 )، ويوافق 95.2% منهم على دور المجتمع السّلبي في التأثير على هذا القرار(مستند 2 ).[image error]1: هل التّوعية حول التخصصات الجامعية قاصرة عن تعريف الطلاب بالتوجهات التي تتناسب مع قدراتهم ورغباتهم؟
[image error]2: هل تعتقد أنّ المجتمع يؤثّر سلباً على اختيار التخصص الجامعي للطالب؟
وقدّم المشتركون اقتراحاتٍ لتوجيه الطّلاب بشكل فعّال نحو التخصصات التي تناسبهم، استناداً إلى المشكلات التي واجهتهم وخبرتهم في الحياة الجامعية. وتتلخص أهم المقترحات بالنّقاط التالية:- الاطلاع على المادة الدراسية للتخصص الذي يريدون، لمعرفة مدى توافقه مع قدراتهم ورغباتهم- اختيار التخصص الذي يستطيعون تمضية بقية حياتهم بالعمل فيه- اختيار ما يتوافق مع كلا الأمرين: الشغف، وطلب سوق العمل- اختيار ما يحبّون كي يكون تخصصهم بيئة صالحة للإبداع- محاولة تجربة العمل بالتخصص أو الاطلاع على عاملين في مجاله قبل الشروع بدراسته- العمل بدوام جزئي قبل المرحلة الجامعية في التخصص المرغوب فيه لمعاينة مجال العمل الحقيقي - تجاهل القاعدة النّمطيّة السّائدة التي ترفع من شأن تخصصات وتحطّ من شأن أخرى (كتفضيل الطب والصيدلة والهندسة على غيرها)- اختيار ما يجد فيه الطالب نفسه، لا ما يجده المجتمع مناسباً- فرص العمل موجودة، لكنّ للمتميّزين الحظّ الأوفر منها، لذا يجب العمل بجدّيّة وإتقان للوصول إلى الهدف المرجوّ- استشارة متخصصين في عدّة مجالات كي يتمّ الاطلاع على أكثر الخيارات المتاحة- توعية الأهل لدورهم الخطير في التأثير على سير حياة أبنائهم، وتوجيههم نحو الطّريقة البنّاءة للتعامل معهم في هذا الموقف
أمّا بالنّسبة لما يودّون تغييره في واقعهم الجامعيّ، فركّز غالبيتهم على وجوب تفعيل الجانب التّطبيقي بعيداً عن نمطيّة التّلقين والحفظ، كالقيام بورش عمل وزيادة فترات تدريب في مجال تخصصهم. كما تمنّى البعض لو يخفّ التّركيز على الامتحانات وتزيد في المقابل حصّة المشاريع والعمل الجماعيّ من العلامة النّهائيّة التي تشكّل مصدر القلق الأكبر للطالب الجامعي. وأوضح آخرون غياب التنسيق بين الجامعات والمؤسسات غالباً، الأمر الذي يشكل عائقاً أمام الخريجين الجدد للانخراط في سوق العمل. أمّا بالنسبة للخريجين بدرجة البكالوريوس، فيرى البعض منهم أنّ تحديد المسار الأكاديمي لما بعد هذه الدرجة يجب أن يوضع نُصبَ أعينهم من البداية، بتوجيه من الجامعات، كي لا يقف تقدّمهم عند هذه النّقطة.
وبين من ما زال يُعطي أذنه للمجتمع ويتغافل عن ما يريده قلبه قبل أن يخطو خطوته الأولى، ومن سبق وأخطأ الاختيار فأصبح رهينة لوقتٍ وكلفة ضائعتين، عاملٌ مشترك: غلطةٌ لا ينفع لِتفادي نتائجها الاعتذار..!
حنان فرحات3-11-2016
October 2, 2016
ما قبل النقطة الأخيرة
توقعت أن لا أغفو في الليلة الأولى لي في السكن الجامعي.. لكنني من فرط التعب نمت باكرا جدا.. هذا الأمر الذي خططت لأن أكتبه قبل أسبوعين من حصوله بدا تافهاً في لحظاته الأخيرة..
ثم تذكرت المرة الأولى التي حاولت أن أنام فيها في غير منزلنا.. وتذكرت المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى الجامعة.. كان كل شيء غريبا، أو بوصف أدقّ: ضائعاً. ثم حين حان وقت العودة إلى المنزل، بدا تمييز الحافلة التي يجب أن أستقلها أمرا مستحيلاً من بين عشرات الحافلات المصطفة في الموقف.. من هناك عرّجتُ إلى المرة الأولى التي طهوتُ فيها.. يومها لم يأكل والدي مما طهوت لأنه كان مضطرا للذهاب إلى طرابلس.. وفي المرة الأولى التي طهوت فيها ال"تنيتنة"، أكلت وأخي نصف ما في القدر، ثم حين جاء البقية تبين أن ما بقي كان محروقاً ملتصقاً في قعر القدر..
المرة الأولى التي قرأت فيها كتاباً عن وعي كان في أدب السجون من وجهة نظر ملحد، وفي المرة الأولى التي اشتريت فيها مجموعة كاملة لأحد الكُتّاب لم أعد أجد وقتاً لقراءتها.. أما المرة الأولى التي كتبتُ فيها فكانت إثر حلم، وأما الحلم الأول الذي لم أنسَ قط، فأعاد نفسه أكثر من مرّة ولم أفهم مغزاه بعد..
في المرة الأولى التي استقلّيت فيها النقل العمومي في العاصمة، دفعت ضعف ما يجب حتى وصلتُ لوُجهتي.. وفي المرة الأولى التي علّمتُ فيها، بدا الأمر أقرب لنُكتة.. كأنني في لحظة كبُرت.
المرة الأولى التي سمعت فيها اسم أخواتي، المرة الأولى التي اخترت فيها ثيابي بنفسي، المرة الأولى التي أكلت فيها من غير مساعدة.. المرة الأولى التي صرخت فيها أني لا أريد الذهاب الى المدرسة.. المرة الأولى التي انتصرت فيها لرأيي، والمرة الأولى التي حِدت فيها عن مبادئي.. كلها خيالات لا تبتعد كثيرا.. ثم تعود فجأة حين أكون في أوج انشغالي..
ثم دعك مني.. هل تنسى المرة الأولى التي تسارعت فيها دقات قلبك؟ والمرة الأولى التي فقدت فيها عزيزاً؟ والنفَس الأول الذي ابتلعته عند وصولك عتبة الحياة؟.. كل هذه أشياء لها طعم مختلف. صعب أن تنسى يوم تغيرت عاداتك الغذائية بعد لقاءك بتوأم روحك، أو لهجتك حين أمضيت وقتا أكثر مع صديق، أو ضحكتك حين لاقيت أحباءك.. حين كتبت ذاتك.. حين بكيت لوحدك.. حين فقدت شيئا نفيساً.. حين فهمت فكراً أو سمعت نقداً.. حين أفرحت طفلاً.. حين أزعجت شخصاً دون قصد..
المرة الأولى التي فيها تسافر، والمرة الأولى التي تكون فيها السائق، والمرة الأولى التي تدرك فيها أنك تحب هذا الشيء أو ذاك.. الرقم الأول الذي حُفظ في هاتفك.. المشروع الأول الذي حلمت بتحقيقه.. الصديق الأول الذي خسرت.. الخيبة الأولى التي واجهت.. التربيتة الأولى التي تلقيت.. المعلم الأول.. الحرف الأول.. كلها أشياء تذوب عند النقطة الأخيرة، لكنها لا تموت إن سعيت أنت لأن لا تموت.
حنان فرحات
July 25, 2016
The Cure for Sins & Sicknesses
Keywords : Fasting, Islam, Intermittent Fasting, IF, Grazing, Food Habits.
Link to Download:
June 5, 2016
قالت ذات يوم
قلمي بِشاربين وقلب، شاربٌ متشرّب لشرقية الرجال، وآخر يدوس عليه، وقلبٌ يرجوهما أن يكفّا عن الجدال .
***
اخلعوا عنكم التقاليد فضلاً، وادخلوا ههنا، فصدري الضيّق أضحى واسعاً بعد أن انتزعت قلبي.
***
التفاصيل الصغيرة التي تسكن في كل زاوية وفي كل قلب.. آه منها..
***
. الضجيج الذي يحيط بنا لا يخمد صوتنا الداخلي إلا إذا قرّرنا ذلك
***
الخوف من الوحدة خوفٌ من البقاء مع الذات، مع أنها الوحيدة التي لن تتركنا حين سيتركنا الجميع.أحبّوا ذواتكم.
***
كلّ النظريات والنصائح حول طريقة النسيان، تصبح فعّالة فقط بعد أن ننسى !
***
بعض المحادثات نمحوها كي لا تخرقنا الرصاصة ذاتها مرتين .
***
دعوتُ الله كثيراً أن يهديكِ وييسر لكِ أمركِ، فبقيتِ بالقرب..وحين دعوتُ الله أن تكوني لي، فرّقنا الله..إن حبّ الله يجب أن لا يُزاحَم ..
***
لا تكذبوا عليهنّ وتخبروهنّ أنّهنّ كاملات..كونوا شجعان لتقولوا أنكم ستفعلون ما في وسعكم لجعلهنّ سعداء بغضّ النظر عمّا يزعجكم فيهنّ.هذه هي الرجولة
***
بالمناسبة، ليس ضرورياً أن يمدحك أحد لتكون جيداً .
***
June 4, 2016
سترة فاطمة
دخل الصّيف بغتة من نافذة الغرفة 241، إذ دخلت الشّابة إليها. جلست على سريرها ذابلةَ إثر التهاب فتك بجسمها النّحيل. تتدلى السّتارة الزّرقاء بينها وبين مريضة التَهم المرض من جسدها تاركاً إياه هيكلاً عظمياً. لم يتطلّب الأمر سوى دقائق حتّى ألّف الألم بين قلبيهما. تقول قاطنة الغرفة الشّبه دائمة بحسرة : "المشحّر الله يزيده شحار"، إذ تُحدّثها عن وقوعها وهي متوجّهة إلى دورة المياه لتتورّم قدماها كأنّ ما في كليتيها من هزلٍ لا يكفي. تتكلّم عن مُصابها؛ تزور المشفى أسبوعيّاً منذ خمس عشرة سنة لتغسل كليتيها، وإذا ما ساء الوضع تصعد نحو غرف المرضى في الطابق الثاني. هناك تتمدّد حيث يسمحون، وتنتظر بصبر يكاد ينفذ شريكها بالغرفة لتتعرّف عليه، تخبره عن مأساتها، تدعو الله أن يخفّف عنها حِملها من الوجع، ثمّ تتمنّى زيارة من أهلها لها قبل أن يحلّ الليل. تقول إنّها نسيت بعضاً من حاجاتها في المنزل، ليتهم يذكرونها فيحضرونها معهم. وقبل أن تُنهي الحديث، تسأل شريكتها بالغرفة: "كم لكِ من الأولاد؟". تُجيبها سلمى أنّها ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية، ولم تتزوج بعد. تهزّ السّيدة رأسها باستغراب، بينما تُحدّق بطبق الطّعام الخاصّ بسلمى، الأمر الذي يجعلها تخجل.. تسألها سلمى إن كانت ترغب بطعامها فهي لا تريده، فتهزّ بالنّفي رأسها وتستثني من ذلك كأس اللّبن، لأنّ الممرّضة نسيت أن تحضر لها كأسها. تُناولها سلمى اللّبن وتراقبها تلتهم الطعام المُعَدَّ في المشفى، والذي يكاد يخلو من أيّ نكهةٍ، كأنّه وليمة فاخرة. تسأل سلمى مجدداً: "هل أنت متأكدة أن تناول اللّبن مسموح لك؟"، فتردّ بالإيجاب وهي تمضغ قطعة خبزٍ مع شريحة لحم لا لون لها. "الممرضة لا تعلم.. الطبيب قال لي أنني أستطيع أن آكل كلّ شيء، لكن الممرضين هنا يعقّدون الأمور..".. كان الأوان قد فات لتسترجع سلمى كأسها الذي قد يتسبب بمصيبة..تضغط السّيدة على الزّرّ المخصّص لنداء الممرضة المسؤولة مراراً، ثمّ حين تأتي، تطلب منها جهاز تحكّم للتلفاز. تغيب الممرضة، ثمّ لا تعود. تضغط مرّة أخرى على الزّرّ.. ثم مرّتين.. تطلب تشغيل المكيّف وإذ به معطلاً. تهاتف الممرضة عمال الصّيانة، وتغادر.. ولا يأتون. تضغط السّيدة على الزّرّ. يتنهّد الزّرّ. تسألها سلمى: "ماذا تريدين؟""أرغب بالذهاب إلى دورة المياه""انتظري حتى تأتي الممرضة""لن تأتي..""أساعدك"قبل أن تجيب السّيدة، تستعد للوقوف. آلام ركبتيها لا تثنيها عن الوقوف وحدها في حين لا تكاد تقوى على حملها.. تنقُل يدها المعلّقة بكيس المصل وأكياس أخرى لمسكنات ومضادات التهاب غزا صدرها البارحة.. ثم تسحب أعضاءها تباعاً حتى تنزل عن السرير..تُسرع سلمى لمساعدتها..يتّكِئ المرض على المرض. تساعد قليلة العزم شبح السّيدة على الوقوف، وتوصلها إلى باب دورة المياه.. ترفع السّيدة يدها نحو سقف الغرفة الذي تؤمن بوجود سماءٍ فوقه تتلقّف دعاء العبد الفقير.. "الله يطعمك سترة فاطمة بنت محمد"، تقول بيقينِ استجابة الدّعاء، كأنّها ليست من قال " المشحّر الله يزيده شحار ".. تتذكّر سلمى نقاشها مع أمّها حول مفهوم السّتر واختلافه عن مفهوم الزّواج وتبتسم، ثمّ تقول "آمين".."لو أنّك لم تقومي دون مساعدة أمس، لم تكن لتكون ركبتاك بهذا السوء اليوم.."، تُتَمتم سلمى.
سِتر الله وسُترة نجاة
قلت لها مئة مرة أنني لا أريد ان أركب الزورق. أنا أخاف من البحر،.. تقول أنني لا أحب أبي ولهذا لا أريد الذهاب معها، وأقول لها أنه هو من لا يحبنا لأنه ذهب بدوننا أولاً..تُلبسني سترة نجاة برتقالية، فأتأكد من خطورة ما نُقدم عليه.. تثبّتها جيداً حتى لا تُفلتني في حال أفلتَت هي يدي.. نركب الزّورق سويّة.. يد أحدهم تغرز خاصرتي، وظهر آخر يقف سوراً أمامي.. ألتفت قليلاً في مساحتي التي لا تتعدى حضن أمي، المياه هادئة والأنفس أمامي صاخبة..الليل يحلّ، والزّورق ينطلق.. الهواء البارد يلفح خدي فتضع أمي يدها علي تَطمئن أنني لم أتجمّد.. الأنفس صاخبة، كل واحد يهمس لزميله.. أو لأقرب جار.. هل سنصل؟ أستبزغ الشمس أم أننا سننتهي تحت جنح الظلام؟.. قالت لي يوماً معلمتي عندما صرخت بأنني انتهيت من حل المسألة أن أقول أنهيت بدلاً من انتهيت لأن في الأخيرة معنى الموت.. وها أنا، وهو، وهم نقصدها بحق ..نهتزّ مع الزورق الذي يركب موجة ثم يهبط دون اتّباع نمط معين.. ننسجم مع الإيقاع غير المضبوط.. نعدّ الأنفاس.. نتقبل ضيق المكان الذي لن يكون أبلغ من ضيق النفس في هكذا موقف.. الناس يبتعدون عني.. الرجل أخيراً أزاح يده عن خاصرتي.. أصبحت أستطيع أن أرى لو كنت سأرى.. الأضواء التي تصل من المصابيح اليدوية تتحرك بغرابة.. الصورة غير واضحة.. الناس يتحركون بسرعة نحو الجانب الآخر من الزورق..أنظر إلى أمي بسعادة إذ أفسحوا لنا المجال لنجلس براحة. أجدها تقبض علي كما لو كنت سأهرب.. الأصوات تعلو.. نحن نتحرك لا إرادياً.. يقولون لا يتحركْ أحد من مكانه.. نجاهد كي نتشبث بالزورق، أمي به وأنا بها.. لكن شيئا أقوى يشدّنا.. يسحبنا.. أمسك بها جيداً.. أسمعها تنادي الله أن يحمينا.. أن يسترنا.. نتزحلق، نرتطم بظهور من كانوا أمامنا.. لا قوة تستطيع إعادتنا إلا الوراء إلا قدرة الله..أشم رائحة المياه.. الرطوبة تزداد.. الظهور تبرد.. أشعر بالبلل.. أمي تمسك بي جيداً وتدعو الله السِّتر.. السُّترة التي أرتدي ترفعني بتؤدة على وجه الماء.. الأيدي تمتد من كل جانب تحاول الإمساك بأي جسم يطفو.. أمي تدعو الله اللطف هذه المرة.. تقول لي أنها تحبني، ثم تفلتني كي لا يُغرقني تشبثها بالحياة.. تُفلت السُّترة فأصرخ.. ***
بينما ضاعت الأصوات، بزغ الفجر.
استجاب الله لأمي دعاءها بالستر، فوجدت من يدثر جثمانها حين وصلت إلى الشاطئ ريثما يصل أبي.. سأتذكر أن أسأله إن كان يحبنا حتى يسبقنا.. هذا إن لم يكن من لطف الله أن لا يأتي.
* مستوحى من من وكالة شهاب الإخبارية إثر العثور على جثث مهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا عبر البحر
June 3, 2016
سترة فاطمة
دخل الصّيف بغتة من نافذة الغرفة 241، إذ دخلت الشّابة إليها. جلست على سريرها ذابلةَ إثر التهاب فتك بجسمها النّحيل. تتدلى السّتارة الزّرقاء بينها وبين مريضة التَهم المرض من جسدها تاركاً إياه هيكلاً عظمياً.
لم يتطلّب الأمر سوى دقائق حتّى ألّف الألم بين قلبيهما.
تقول قاطنة الغرفة الشّبه دائمة بحسرة : "المشحّر الله يزيده شحار"، إذ تُحدّثها عن وقوعها وهي متوجّهة إلى دورة المياه لتتورّم قدماها كأنّ ما في كليتيها من هزلٍ لا يكفي. تتكلّم عن مُصابها؛ تزور المشفى أسبوعيّاً منذ خمس عشرة سنة لتغسل كليتيها، وإذا ما ساء الوضع تصعد نحو غرف المرضى في الطابق الثاني. هناك تتمدّد حيث يسمحون، وتنتظر بصبر يكاد ينفذ شريكها بالغرفة لتتعرّف عليه، تخبره عن مأساتها، تدعو الله أن يخفّف عنها حِملها من الوجع، ثمّ تتمنّى زيارة من أهلها لها قبل أن يحلّ الليل. تقول أنّها نسيت بعضاً من حاجاتها في المنزل، ليتهم يذكرونها فيحضرونها معهم. وقبل أن تُنهي الحديث، تسأل شريكتها بالغرفة: "كم لكِ من الأولاد؟". تُجيبها سلمى أنّها ما زالت طالبة في المرحلة الثانوية، ولم تتزوج بعد. تهزّ السّيدة رأسها باستغراب، بينما تُحدّق بطبق الطّعام الخاصّ بسلمى، الأمر الذي يجعلها تخجل.. تسألها سلمى إن كانت ترغب بطعامها فهي لا تريده، فتهزّ بالنّفي رأسها وتستثني من ذلك كأس اللّبن، لأنّ الممرّضة نسيت أن تحضر لها كأسها. تُناولها سلمى اللّبن وتراقبها تلتهم الطعام المُعَدَّ في المشفى، والذي يكاد يخلو من أيّ نكهةٍ، كأنّه وليمة فاخرة. تسأل سلمى مجدداً: "هل أنت متأكدة أن تناول اللّبن مسموح لك؟"، فتردّ بالإيجاب وهي تمضغ قطعة خبزٍ مع شريحة لحم لا لون لها. "الممرضة لا تعلم.. الطبيب قال لي أنني أستطيع أن آكل كلّ شيء، لكن الممرضين هنا يعقّدون الأمور..".. كان الأوان قد فات لتسترجع سلمى كأسها الذي قد يتسبب بمصيبة..
تضغط السّيدة على الزّرّ المخصّص لنداء الممرضة المسؤولة مراراً، ثمّ حين تأتي، تطلب منها جهاز تحكّم للتلفاز. تغيب الممرضة، ثمّ لا تعود. تضغط مرّة أخرى على الزّرّ.. ثم مرّتين.. تطلب تشغيل المكيّف وإذ به معطلاً. تهاتف الممرضة عمال الصّيانة، وتغادر.. ولا يأتون. تضغط السّيدة على الزّرّ. يتنهّد الزّرّ. تسألها سلمى: "ماذا تريدين؟"
"أرغب بالذهاب إلى دورة المياه"
"انتظري حتى تأتي الممرضة"
"لن تأتي.."
"أساعدك"
قبل أن تجيب السّيدة، تستعد للوقوف. آلام ركبتيها لا تثنيها عن الوقوف وحدها في حين لا تكاد تقوى على حملها.. تنقُل يدها المعلّقة بكيس المصل وأكياس أخرى لمسكنات ومضادات التهاب غزا صدرها البارحة.. ثم تسحب أعضاءها تباعاً حتى تنزل عن السرير..
تُسرع سلمى لمساعدتها..يتّكِئ المرض على المرض. تساعد قليلة العزم شبح السّيدة على الوقوف، وتوصلها إلى باب دورة المياه..
ترفع السّيدة يدها نحو سقف الغرفة الذي تؤمن بوجود سماءٍ فوقه يتلقّف دعاء العبد الفقير.. "الله يطعمك سترة فاطمة بنت محمد"، تقول بيقينِ استجابة الدّعاء، كأنّها ليست من قال " المشحّر الله يزيده شحار ".. تتذكّر سلمى نقاشها مع أمّها حول مفهوم السّتر واختلافه عن مفهوم الزّواج وتبتسم، ثمّ تقول "آمين"..
"لو أنّك لم تقومي دون مساعدة أمس، لم تكن لتكون ركبتاك بهذا السوء اليوم.."، تُتَمتم سلمى.
حنان فرحات 3-6-2016
دعاء بالستر وسترة نجاة
أنظر إلى أمي بسعادة إذ أفسحوا لنا المجال لنجلس براحة. أجدها تقبض علي كما لو كنت سأهرب.. الأصوات تعلو.. نحن نتحرك لا إرادياً.. يقولون لا يتحركْ أحد من مكانه.. نجاهد كي نتشبث بالزورق، أمي به وأنا بها.. لكن شيئا أقوى يشدّنا.. يسحبنا.. أمسك بها جيداً.. أسمعها تنادي الله أن يحمينا.. أن يسترنا.. نتزحلق، نرتطم بظهور من كانوا أمامنا.. لا قوة تستطيع إعادتنا إلا الوراء إلا قدرة الله..أشم رائحة المياه.. الرطوبة تزداد.. الظهور تبرد.. أشعر بالبلل.. أمي تمسك بي جيداً وتدعو الله السِّتر.. السُّترة التي أرتدي ترفعني بتؤدة على وجه الماء.. الأيدي تمتد من كل جانب تحاول الإمساك بأي جسم يطفو.. أمي تدعو الله اللطف هذه المرة.. تقول لي أنها تحبني، ثم تفلتني كي لا يُغرقني تشبثها بالحياة.. تُفلت السُّترة فأصرخ..
***
بينما ضاعت الأصوات، بزغ الفجر.
استجاب الله لأمي دعاءها بالستر، فوجدت من يدثر جثمانها حين وصلت إلى الشاطئ ريثما يصل أبي.. سأتذكر أن أسأله إن كان يحبنا حتى يسبقنا.. هذا إن لم يكن من لطف الله أن لا يأتي.حنان فرحات
6-3-2016
* الصورة من وكالة شهاب الإخبارية إثر العثور على جثث مهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا عبر البحر
دولار واحد
التقَطَتْ لوح شوكولا من على رفّ مزدحم بالأنواع والأشكال، ثمّ قدّمَتْه للبائع الذي طلب بالعملة اللّبنانية ما يساوي دولاراً أمريكياً بالمقابل.. سحَبَت المبلغ من حقيبتها ودفعته ثم التفتت إليّ وقالت بطرافة: "سعره يساوي سعر ربطةٍ خبز"، فضَحِكْتُ.منذ ذلك اليوم، كلّما قصدتُ شراء شيء من ذلك الدكان، أقوم بتحويل سعره إلى ما يعادله من "ربطات الخبز". ولعل للقارئ أن يظنّ تلك الصّديقة غير ميسورة مادياً، أو أنّ في نفسها شيئاً من البخل الذي ينتقل بالعدوى ما إن تُحدّثَ أحداً به، لكنّ كلّ ما في الأمر أنّ لها حسّاً مرهفاً يعاني من كثرة التفكير اوالتّحسّر على كلّ إسرافٍ كان لِيُشبع عائلة.الغريب في الأمر أنّ ثلث الدّولار الذي كان كافياً غالباً لإشباع طفولتنا من أكياس الذّرة المحمّصة والسّكاكر، لا يكفي ضعفه لِمَلْءِ عيون النّاظرين إلى رفوف المحالّ المكتظّة بما تشتهي الأنفس. وفي هذا السّياق، أذكر يوماً أنّ إحدى الحملات الإغاثية كانت تسعى لتأمين حاجات خمسين عائلة معوزة، ما دفعني لتخمين كميّة الخبز لاستهلاك يومٍ واحد، والتي تساوي حسب قاعدة الصّديقة تلك: لوحَ شوكولا لكلٍّ من خمسة أصدقاء على مدى عشرة أيام.هذا لا يعني أنّ على كلّ واحدٍ منّا مقاطعة كلّ منتج يساوي سعره سعر ربطة الخبز أو يتجاوزه.. بل دعوة بسيطة على مشارف شهر رمضان: أن لا نبخل حين تصل أيدينا إلى صناديق التبرّعات، ولا تدنو نفوسنا عند آجال الصّدقات، كما لا تفعل حين تٌفضّلُ البوظة الفاخرة على تلك العاديّة، أو تَطلبُ السّوشي.