ŷ

Hanan Farhat's Blog, page 9

March 29, 2017

النساء.. والزيتون



لطالما نظرتُ إلى حفنةٍ من الأمثال الشّعبيّة على أنّها موروث الجَهل، خصوصاً ما يستهدفنا منها، نحن الإناث. ومن هذه القِلّةِ التي لا أُحبّذ عادةً تداولها: "النسوان مثل الزيتون، ما بيِحلوا إلا بالرَّصّ". فحبّة الزيتون حين تُدقّ على رأسها تفتَحُ لها مُتنَفّساً كي تتسرّب مرارتها إلى منقوع الماء فيَحلوَ طعمُها.. وكذا النساءُ بزعمِ المَثَل الشعبيّ ذا. لكنّني، صدِّق عزيزي القارئ، لا أكتُب هذا المقال بصَدَد الانسحاب من الفئة التي يشملُها وجوب "الرّصّ" ولا كي أبرّئ النّساء من هذه الضّرورة.. بل أكتُبُ مطالِبَةً بحقّ الرّجال في الانضمام إلى فريق "المرصوصين" كي "يَحلوا". خلال دراستي الجامعية، عُرِفتُ بين أصدقائي بكثرة المشاغل، فأنا المُعرقِل كلّما أرادوا القيام بنشاط ما أو زيارة. وكنتُ أرُدّ على سؤال: "متى تكونين مُتفرّغة من أعمالك" ب "لا أكون مُتفرّغة أبداً، لكنني أستطيع إيجاد فسحةٍ من الوقت إن حددتم لي الزمان الذي يناسبكم". ولا أدّعي أنّني كنتُ مُستثمرةً وقتي بشكل مثاليّ، لكنّ محاولاتي الدائمة كانت تهدف إلى تكريس ساعة الاستراحة للراحة ولا شيء غير الراحة، فيما ساعة العمل وَجَب اخِتتامها بالإنجاز. وكانَ ملازماً لي -غالباً- دفتر صغير يحتوي على خطة قصيرة الأمد، تُوزّع مهام الأسبوع على أيّامه.ثم حين فُرِجت، واتّسع الوقت، وتقلّصت المهامّ والواجبات الدراسية، انحلّ عِقدُ البرامج الدقيقة، وإن صودِف أن وضعتُ برنامجاً فلا ألتزم به. وبينما أفكّر بأصل المشكلة علّني أجد الحلّ، مرّ بِبَالي مَثَلُ النساء والزيتون.. وكأنّني استيقظت فجأة على الحقيقة المُرّة: أنا زيتونة. ففي فترة الضّغط كان كلّ شيء ينتهي قبل موعده بأربعٍ وعشرين ساعة، وإن لا، فقبل اثني عشرة ساعة على أقل تقدير. لكن التأجيل والمماطلة كانا واقفين على عتبة فصلِ الصيف يلوّحان لي بأيديهما، وإلى جانبهما واقفٌ الاختبار النّهائي لآخر مادة سأُمتَحَنُ فيها. وعِوضاً عن إنهاء استعدادي للاختبار قبل يومٍ منه، قرّرتُ أن ساعتين من الدراسة قبله مباشرة تكفيان. كانت تلك بداية القصة وتلخيصاً لها. يجب أن أكون في زحمة مهام حتى أُنجِز.لكن هل يجب فعلاً على الجميع أن يعملوا تحت الضّغط حتى يُنجِزوا؟ وإن لم يكونوا تحتَ الضغط فهل يؤثّر ذلك على فعاليتهم؟ الواقع أنّ نتيجة الأمر تتباين بين شخصٍ وآخر، ومهمّة معرفة الظروف الأنسب لكل فردٍ موكلة إليه. في محاولة لتفسير ذلك، نجد أن كثيراً من الدراسات تناولت العمل تحت الضغط، وبعضها ربط بين ذلك والنّجاح. لكنّ أمراً لفَتَ نظري في المسألة هذه، وهو أنّ ردود فِعْلِ النّاس تجاه الضغط قد تقلِبُ الموازين، فإن تعاملوا مع "الدّقّ" بإيجابية تزولُ مرارة صبرِهم ويتحوّل عملهم إلى حلاوة الإنجاز.  يقول "مارتن ترنر" مؤلّف كتاب  What Business can learn from sport psychology: ten lessons for peak professional performance  أن الاستجابة الأولية للإجهاد (أو العمل تحت الضغط) تحدث دون وعي وتلقائياً على أساس تقييمنا السريع الأولي للوضع. فبعض الناس قادرون على الاستجابة بطريقة تساعد أداءهم، بحيث ينظرون إلى العمل كنوع من التحدي. ولكن في المقابل، يدخل أشخاص آخرون في حالة تهديد، مما يعيق أداءهم.
وتعكس حالة التحدي عقلية إيجابية لحالات الضغط حيث تستجيب مواردنا العقلية لمطالب الوضع. أما حالة التهديد فمثالٌ عليها من يُكرّر على الدوام أنه "لن يخفق" أو "لن يفشل" أو "لن يخسر"، فيما يترك فعلياً في داخله زعزعة حول قدرته على تحقيق الهدف. خلاصة الأمر أنّ طول قائمة المسؤوليات والمهام أمر إيجابي إن اختار الشخص ذلك. ولا أقصد بطولها أن تكون مفرطة الطّول بحيث تؤدي إلى الإجهاد الحادّ (acute stress) ، ذلك لأنّ "لنفسك عليك حقاً" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتجاوب الإيجابي مع واقع استحالة التهرب من "الدقّ" فوق رأسك، فصَبّر نفسك بالحال الذي ستؤول إليه. وإن لم تقطف أنت ثمار عملك، فبالتأكيد سينتفع بها أحدٌ يوماً ما.. كأن يُؤكَل الزيتون ويُستساغ طعمه!
29-3-2017
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on March 29, 2017 11:01

March 15, 2017

إلى هادي العبد الله في السنة السادسة للثورة



ليلةَ رأسِ السنة، يقف العالم كلّه على حافّة الزّمن ينتظرون العام القادم الذي لا يدرون ما سيحمله لهم. يتمنّونَ أن تكونَ مفاجآته هذا المرّة أكثر سعادةً وبأقلّ الخسائر.. ينتظرون دَقّة الساعة الأخيرة، لحظة الصفر التي ستمثّل للبعض نقطة انطلاق جديدة، وللآخرين بداية سلسلة جديدة من الانهزامات. هي الليلة ذاتها، تمرّ على البعض بنشوة انتصار، وعلى آخرين بمزيد من الانكسار.
ثمّ إذا اقتربْنا أكثر من رأس سنةِ كل شخص على حدة، ذكرى ميلاده الميمون الذي أمضى حياته بانتظاره كل ثلاثمئة وخمس وستين يوماً، وجدنا في بعض الأحيان موائد عامرةً بما لذّ وطاب، وزينة ملوّنة تحيط بالمَدعوّين، وشمعات على عدد السنوات التي انقضت من عمر المُحتَفى به تنتظر، صامدة في وجه النسمات، أمنية منه قبل أن تنطفئ. 
لكنّ ذكرى الميلاد في أماكن أخرى هي شيءٌ آخر تماماً. هي ذكرى رسالةٍ، أو ذكرى هديّة، أو ذكرى شخصٍ، أو ذكرى أمنية. هي ذكرى وجهٍ أحبَبتَه ولمّا يعُد إلى لقائه سبيل.. وذكرى أهلٍ اشتقتَ إليهم، باعدت بينك وبين لقياهم شواطئ الرحيل.. هي ذكرى سنواتِ سِلْمٍ، وذكرى أوقاتِ مرَح، وذكرى اجتماعات مع الأحبّة.. ذِكرى كعكة احتفاءٍ متواضعة، وذكرى ابتسامةٍ نادرة، وذكرى صورةٍ أخيرةٍ.. واليومَ، في ظلّ الطائرات، وتحتَ سحُب التفجيرات، أصبح لذكرى الميلاد طعمٌ جديد. 
من كان يظنّ، يا هادي، أنّ أطفالاً كانوا يلعبون يوماً في شارع الحيّ سوف يُصبحون رجالاً في غضون أشهر؟ أرباب خيامٍ يُطلقون عليها اسم "البيوت"؟ من كان يظنّ أنّ النساء سوف يُصبِحن رجالاً تحت وطأة النزوح، وأنّ رجالاً سيصبحون شائبين من كثرة الفواجع؟ من كان يظنّ أن ستّ سنواتٍ شرذَمتِ العوائل، وفرّقت الأصدقاء، وجعَلَت في صدْرٍ كلٍّ منهم خوفاً وحزناً يزيد ألمه مع الزمن بدل أن يندمل؟
الحربُ يا هادي صورة لمن يُتابعها من خلف الشاشة.. مُصطَلَحٌ قابل للحوار والتّفاوض والنّقاش.. مفردةٌ مليئةٌ بالمعاني، تنفُضُها عنها قبل أن تصل إلى المستمعين.. الحرب أشلاء ممزقة، ودماء منتشرة، وبقايا منازل، وآثار مدُن، وفيضٌ من الذكريات.. هي أعداد شهداءٍ، وأكثر منها أعداد الإصابات.. وأفئدة تكاد تهوي من وقْع تخاذل العالم، قبل أن تمسّها الجِراح. وهي في مقابل ذلك كلّه، صوتُ المخنوقين المقهورين، تُحاول إيصاله أنت، فتَخسَرُ أشقّاء الروح على طريق الثّورة.. لكنّك بالرغم من ذلك تتابع المسير، وتحمل الراية وتسير قابضاً على ندبات المصائب كي تحيا القضيّة الأمّ. 
لحظةٌ واحدة تكفي لتصبح المنعطف القاسي في حياةِ كلّ منّا، حيث يتحوّل كلّ شيءٍ قبلها وبعدها إلى تقويم مُسنَد إليها، وتغدو هشاشة أرواحنا أوضح. وإني لأحسَب أن حياتَك قد غدَت مجموعة منعطفات يُخيّل للمرء أنّها لن تنتهي. الصورة الأخيرة قبل الفقْد، الحُلمُ الأخير قبله، السهرة الأخيرة قبله، وجبة الطعام، النظرات، الإيماءات، النّكات، التخوّفات، والتّوصيات.. تتهافت كلّها، الجراحُ، عند كلّ اختبار جديد.. لكنّها لحظات نُضجٍ مُحَتّم. لحظات اختبار للصبّر، وابتلاءٌ لن يزيد الحِملَ -بحكمة ربّانية- فوق طاقتك. 
في الذكرى السادسة لبداية الثورة السورية على وجه كوكبٍ يعجّ بالظّلم، أدعو الله لك، حيثُ أنتَ، ألّا تشهد المزيد من سفك الدماء وهتك الحُرُمات، وأن يربِط الله على قلبك، ويزيد من همّتك، ويُجنّبك المزيد من الفَقْد، ويحميك وأمثالك ممّن رفعوا صوتَ النّاس في حين كانت حناجرهم تغصّ بالآلام وأنفاسهم تخفُتُ تحت الركام. 
15-3-2017
1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on March 15, 2017 11:22

March 8, 2017

لا نريد يوماً للمرأة!


لا نريد يوماً للمرأة. غريبٌ أمركنّ وأمرهم..
هل حقاً نحتاج يوماً لرفع طلباتنا والشعور باستثنائيتنا ثم نعود إلى ساحِ الوغى في الصباح التالي نكنِس الأرض ونقشّر البصل ونبرمج ونبني ونُصمم ونُدير؟
هل نحتاج يوماً لنجعل من الرجال أندّاء ثم نعود في اليوم التالي لنحتاج إليهم فيما فَطَرنا عليه الله من اختلاف واحتياج؟
الحقيقة يا سيدات، قبل السادة، أننا لا نفعل في هذا اليوم سوى تذكّر ما نظنّ أنفسنا محرومات منه، نلعب دور الضحية، نقف جنباً إلى جنب بالأيادي المشبوكة نهتف بالحريات المسلوبة والحقوق المهدورة وندعو إلى المساواة.. ثم في الغد نسمع إحدانا تقول بعد أن مضى من العمر ما مضى: "الحق منذ البداية على السيدة التي تجعل من نفسها رجلاً.. لا تُدرك أنها لن تستطيع التراجع، ولا أنها ستشتاق لأن تعود لأنوثتها ولات حين مندم..".اليومُ، يا سيدات، يكون للضحايا، وأنت تضعن أنفسكن في موقع الضحية لتقلن إنكن قويات!
اليومُ، يا سيدات، يكون للأشياء المَنسيّة التي لا نذكرها إلا عند الحاجة أو في أوقات الفراغ، وأنتن تقفن في هذا اليوم تُطالبن بعودة قضيتكن إلى الواجهة بدل تكريسها رسالة منكنّ في أي مجالٍ كنتنّ!
اليومُ يا سيدات يكون للرموز التي قد هدَر حقَّها ظالم، ثم نجد الرجال قد وقفوا بجانبكن في هذا اليوم يفتخرون بكونكنّ السّنَد والدافع ومنبع العزيمة ومنبت الأجيال.. فمن يكون الظالم؟
اليومُ، يا سيدات، يكون ليقول العمّال نحن هنا.. ويقول المعلّمون نحن هنا.. ويقول الطفل بصوته الضعيف أنا هنا.. ومن ثمَّ أتت بدعة يوم الصديق ويوم الأخ ويوم الأخت ويوم الحبّ.. هذه الروابط والمِهن تتقلّص لتصبح حبيسة يوم تخرجُ فيه عن المألوف لتلتقط أنفاسها قبل العودة إلى مطحنة الأيام، ثم تتساوى معكنّ بالتّقدير والعِرفان...! أنتن نصف المجتمع، وأكثر. لستنّ بحاجة إلى يوم لتتذكرن أنكن مميزات � والحقيقة أنكنّ لستنّ الوحيدات في ميدان التميّز-، ولا ليوم لتطالبن بحق إن كان مهدوراً.. ولا ليومٍ حتى تتلقين هدية أو تسمعن كلمة طيبة.. لستنّ أقل من الرجال حتى تكون لهم أيام السنة ويكون لكنّ يوم، كفى دلالاً واستهتاراً بقيمتكنّ، ولكن قبل ذلك كفى تكبّراً على معشر الرجال.
حقوقكن لم تُسلب عُنوة، ولا يضيع حق وراءه مُطالِب، والصبر والعزيمة والوعي عليكن واجب.. وإلّا فاجعلنَ يوماً للرجالٍ أيضاً.. إن كنتنّ تُرِدنَ المساواة..
 •  0 comments  •  flag
Published on March 08, 2017 03:09

February 23, 2017

في الغياب



يَحدُثُ أن تلفِتَ نظَرك العفوية المُفرِطة. كانتْ تتحدّث وكنتُ أسمع. وبعد نهار طويل من سرْدِ الأحداث وتبادل العِبَر، قامتْ تُغادرُ إلى منزلها فتَنَبَّهنا إلى أنّنا لم نعرف بعدُ أسماء بعض! ضحِكتُ. بعض الناس لا تحتاج إلا إلى اسمِهم، وآخرون حدودهم مفتوحة، وأبوابهم مُشرعة، ومعابرهم سالكة. 
قلتُ لها: أمجنونة؟ كيف لا تجزعين على ضياع هاتِفك؟ أعني أنّه غالباً يحتوي على كلّ أرقامك المهمّة، وقد يكون فيه أرشيف ضخم للمواعيد والصور والمقاطع المُصوّرة! فأجابت بابتسامة لم تُفارق وجهها: ليست المرّة الأولى، ببساطة اعتدتُ! فقدتُ من قبلُ حقائب سفري في إحدى المرات حيث كنتُ ذاهبةً إلى أميركا.. وائتمَنت جارتي على المنزل والسيارة هناك حين اضطررت للعودة لأمر طارئ إلى لبنان. لم أستطع متابعة الأمر فوراً، وحين رجعت إليها كانت قد استولَت على كلّ شيء. هذه الأشياء تحدُث كثيراً.. كل يوم تقريباً. صرتُ أعتبر أنّ كلّ ما في الأمر رسائل إلهية. إن اشتريتُ شيئاً ثمّ سُرِقَ أعتبره رزقَ السارق.. وإن كسِبتُ مالاً ثمّ ذهَبَ لغيري أقول نصيبُه.. كلّ شيء يذهبُ ويعود.. المال والبيوت والأملاك.. كلّها تُعوّض.. وأنا أهزّ لها رأسي بالإيجاب قطَعت عليّ شرودي بتنهيدة، ثمّ أتبَعَتها: "من لمّا راح بيّي بطّل شي يِفرِق... راح الغالي، على شو بعد نبكي؟".
...
البارحة كان عيدُ الأمّ وكنتُ أقولُ رفقاً بقلوب اليتامى. لكنّني اليومَ أقولُ رِفقاً بقلبي المفجوع بغيابك. يقولون، يا أمّي، موتُ الفجأة صعبٌ. ويقولون موت المريض مِيتاتٌ لا ميتة. ويقولون صغير لم يتجاوز ربيع العُمر، ويقولون مسكين لم يبلغ السبعين.. ولِسانُ القَلْبِ ينطق ألّا سبَب يُهوِّنُ المُصيبة، ولا سِنٌّ يُخفّف وطأتها.. غيابكِ جارِحٌ مُحرِقٌ موجِع، وطيفُكِ المبتسِمُ لا يزيدني إلا بؤساً وضياعاً. لا تقلقي، ما زلتُ أضحكُ للحياة.. أجاريها، ثم حين تُشيحُ وجهها عنّي أُلَمْلِمُ دموع اللهفة. صِرتُ موقناً أنّ المِشوار قصير، مهما طال.. وكلّ فقْدٍ بعدَ موتك بالٍ.

نورُ عينيَّ الاثنتين كان. ظِلّي الذي لا يُفارِقني. صدّقي أنّه كان يخاف عليّ من نسيم الهواء.. كان يقول:" بقلِب الدنيا على اللي بيزعلك"، وكان يعنيها.. كنتُ آمره ألّا يُخاطر بأي شيء قبل أن أوافق، وكان يحترم رغبتي لحِرصِه عليّ.. فهو يعلم جزعي من الفَقْد الذي شربتُ من كأسه مراراً ولم ينتهي ما فيه.. لكنّه مع ذلك تركني ورحل. جاء ليمنحني الأمل، ثمّ ذهب وسحبَ جذور الفرح معه. أصبحتُ الآن لا أخاف من شيء.. أموتُ، أعيشُ، لا فارق.. كَثرةُ الفَقْد أورثتني خدْراً في مواطن المبالاة.. 
...
الموتُ غيابٌ مفرِط، يَسقُط في حضرته العِتاب. تتعدّد وجوهه حين يأتي، لكنّه حين يذهب يبقى بلونٍ واحدٍ ونكهة واحدة. أظنّه يوماً بلون الكُحل، يزيد بالأسود القاتمِ الجمال.. أتُراه البُعدُ يزيّن الغائبين؟ أصحيح أنّ البشر مثل الأشياء، تزداد قيمتها بِنُدرتها، فيرتفع مقامهم بالرحيل؟ لماذا تكون الأنا فوقَ كلّ مَبلَغٍ إلى أن تصِلَ عتبةَ المَنِيّة؟ لماذا لا نعي قيمة الأشخاص قبل أن تُغلق على رُفاتِهِم أبواب القبور؟ وهل إذا فعلنا قبل ذلك نعيش ألَمَ الفَقْدِ مرّتين؟ مرة خوفاً من حلوله، ومرة بعد أن يَحِلّ؟
2 likes ·   •  0 comments  •  flag
Published on February 23, 2017 23:09

January 19, 2017

ولادة كتاب

قراءة الكتابِ هي النظرة الأولى إليه، أما معرفة سيرة حياته فأوْلى من النظر للحكم عليه؛
كيف بدأت الفكرة،
من أين جيء بعنوانه،
كم استنزف من الوقت والجُهد،
كم امّحت صفحات منه قبل أن يُبصر النور،
وكيف خيطت أفكارٌ دونَ أخرى..
ثمّ أيُّها -من السطور- أحبُّ إلى قلب كاتبها،
وأيها التي استعصت على الممحاة مع أنها لم ترُق له..
متى طُبِع الكتاب وكيف...
كيف اختار له الكاتب لِباسه -غلافه-،
وكم انتظر حتى خرج من غرفة العمليات..
هل أعجبه من النظرة الأولى أم إن وليّ العهد لم يكن على القدْر المتوقع من الوسامة؟
وهل كانت له رائحة الكتب الزكية أم إن ما يُحكى عن روائح الكُتب مبالغة محضة؟
ثم هل غار عليه حين حمله غيره؟
وهل حزِن عندما نظر إليه قارئ ما بلا مبالاة؟
وهل شعر بالفخر عندما رآه على رفوف المكتبات لأول مرة؟ وهل جعله رونق كتابه البِكر ينسى ألم الكتابة فيُعيد الكرّة؟

#حنانفرحات

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on January 19, 2017 13:15

December 16, 2016

"تحرّرت حلب"



في مشواري الصباحي بواسطة النقل العمومي الكثير من الدهشة التي أصادفها على شكل أشخاصٍ أو أحداثٍ أو بقايا من أحاديثٍ تخرج على شكل أفٍّ أو تنهيدة، ومنذ يومين كانت الحادثة الأغرب؛ قُلنَ بِفرح غامر: "تحررت حلب" بينما كنتُ أركب الباص، فضربت الجملة طبلة أذني طارقةً عقلي، مُدخلّةً إياه في حال من الذهول. سيدتان سوريتان في الصف الخلفي جلستا تتشاركان الخبر طازجاً، قالت إحداهنّ تَزُفُّه للأخرى مُقسِمةً بالله أنهم "عرضوا ذلك على نشرة الأخبار ليل البارحة".. قالت إنهم قد عرضوا مشاهد الناس يحتفلون ابتهاجاً بالنّصر المُبين، فاستفسرَت الأخرى عن أي منطقة بالضبط تحدّثوا، ولكنّ الأولى لم يكن عندها الجواب. فتحت حسابي على الفيس بوك لأتأكّد من الخبر الذي "راح عليّ" كوْني كنت أدرس في الليلة السابقة ولم تسنح لي الفرصة أن أطّلع على مجريات الأحداث، قلتُ أحتفل معهنّ. وما إن فتحته حتى استقبلتني صور السكان المبتهجين المحتفلين الذين ذكرتهم السيدة تلك. 
اغرورقت عيناي من "الفرح" بينما تراءت لي صور رجلٍ مسنٍّ بعمر نكبة فلسطين يعتصر ما تبقّى من دموع لديه على ما تبقّى من ركام ورفاة.. ثمّ "ابتهجتُ" أكثر لمّا رأيت شابّاً من عمري مستقبلاً لوحةً رماديةً بضربة على جبينه أظنّه تمنّى لو كانت القاضية.. وخانتني الدمعة أمام سيّدة تركض فاتحة ذراعيها كما لو أنّها تريد احتضان الشارع الذي امتلأ بال"مُحتفلين" المَرمِيِّين على جوانبه. لكم أن تتخيلوا كم "سَعِدتُ" بِصورة رجل يحمل ما تبقّى من ثمرة عمره، رِجلا ابنته تلوحان في الهواء بينما يحتار هو أيبحث عن بقيّة جسدها أم يكتفي بما وجد.
رجلٌ ثلاثينيّ يقف أمام من كانت ستكون أمّ أولاده، طفلة تخبر والدها للمرة الأخيرة أنها لا تريد أن تكبر أكثر، صديقان لا يدريان من يتّكئ منهما على الآخر، تجاعيد على وجهٍ تخجل من فرط تغلغلها إلى القلب، دمعات تجفّ من شدة الصقيع، ألوان تمّحي من كثرة البهوت، أطيافٌ تعتلي بقايا أشخاصٍ غدوا أرقاماً يُنهك المُسعِفين تعدادهم، أكفٌّ تحتار هل تمتدّ نزولاً لتُساعدَ أم ترتفع لتسأل الله العون والصبر، حجارة تكاد تنطق من وفرة الآهات تحتها، وحسابات فيس بوك تنتقل إلى خانة الحسابات غير الفاعلة.
وددت لو أشارك الصَّور مع السيدتين لأؤكد كلامهما حتى تفرحا أكثر. لكنني من الصدمة سكتّ. احترت فعلاً أنّني لم أجد في الصّور ما يعبّر عن استعداد سكان حلب لذكرى مولِد النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم.. ثمّ فكّرتُ أن لربّما لم تصلهم أخبار أسبوع الوحدة الإسلامية الذي يُفترض به أن يجمع شمل المسلمين ويعيد أمجادهم.. ثمّ أين زينةُ ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام؟ أين هم من التعايش مع أبناء الديانات السماوية؟ أيُعقل أنّهم سيُفوّتون احتفالات رأس السّنة، أم إنّ الموضة فرضت عليهم اللونين البنيّ والرمادي؟!
أحسست بواجبي تجاه سكان حلب الذين لم يبقَ لهم من حلب شيء، اللهم إلا "الاحتفالات". شددت الهمّة وفتحت صفحتي الخاصة كي أشارك في النّدب والعويل.. لم أجدْ ما أقوله.. كتبت مرة واثنتين، كذبت مرة واثنتين ثم محوت.. قررت أن أكتب ما حصل فعلاً: "يقولون، في الباص، تحررت حلب!"
2 likes ·   •  2 comments  •  flag
Published on December 16, 2016 03:35

December 12, 2016

في البَرْد

البرد أزيز الباب، وحفيف الكفّين ذهاباً وإياباً يحتكّان، وزفيرٌ يحمل من الباطن أملاً بالدفء يخرج على شكل ظل غمامة.. والبرد أوصال ترتعد، ورُكَبٌ تهتز، وأسنان تصطك. وهو الأبيض يغطي الأرض ملحاً وفيراً، والثلج يذوب نهراً غزيراً، والمياه تشتاق إلى الأرض فترمي بنفسها من سطح المنزل، والسطح يتمسك بمياهه فيجمدها أشواكاً مسننة، والشمس تستميحه أن يسمح لها بالنزول.

والبرد وحدةٌ قرب المدفأة، وغيرة من أخشاب تحترق متكاتفةً في حضنها. والبرد فكرة تجتاح سكون الليل فتأجج الاشتياق. والبرد همسة تنقل خبراً سيئاً، ونظراتٌ متسمرة عليك كأنها تقرأ ما يدور في خلَدك،  وهمزات أصدقاء في غيابك، ولمزات أقرباء في ضعفك.

البرد نصل سكين هو أهون الأمرّين، وجِلسةٌ منكفئة في زاوية، وساعدان متشابكان علهما يتدفآن.

والبرد جندي من جنود بلادي يؤدي واجبه،  وحارس ليليّ هو الساهرة عينه، وطبيب في غرفة التخدير، وعاملٌ عمله في سبات، وطائر أضاع سربه المهاجر، ونملة متأزرة بحبة قمح دهسها الجهل، ونحلة مختبئة في قفيرها إلى حين يأتي الربيع.

والبرد صحن فارغ، وبالٌ مشغول، ويد منهمكة.
وهو كفّ تغسل وتطهو وتنظف.
وأما أشدّه فبدنٌ متيبس، طعامُ الدّيدان.

1 like ·   •  0 comments  •  flag
Published on December 12, 2016 09:42

December 11, 2016

التابوت

يقِفُ كما في كلّ سنةٍ عند رأس التابوت ذاته، لكنّه هذه المرّة لا يسمع لهاثه. فالدرس الجديد الذي أضافه إلى سلسلة المجلّدات التي يحاول عبثاً حفظها في رأسه يقضي بأنّ موعده مع هذا التابوت مُقّدّر: فهو إما أن يصل، أو لا يصل. لكنّه، أبداً، لا يتأخر.

في جعبته الأفكار التي قضى أياماً وإياها، تترنّح في رأسه كما الهذيان. وبيده حقيبةُ أوراقٍ ومستندات وفواتير، وعلى جبهته، متعامدة تماماً مع عينيه، علامات تركتها الانتكاسات التي تولّد في قلبه ريحاً قليلاً ما تهدأ.

فتح التابوت، كما في كلّ مرة. أزاح بيديه الثخينتين التَّعِبتين خشبه العتيق بعمر الصرخة الأولى، فتسربّت رائحة عفن وقِدَم. لن يستطيع إغلاق أنفه كي يتفادى الرائحة، فإزاحة الغطاء تتطلب مجهوداً هو ذاته الذي يضبط المخبوءات عن الإفلات. وبينما تتفلّت من التابوت غمامة ذكريات، داهمته موجة سعالٍ أبعدتها عنه.  

ألقى نظرة على ما فيه. الحقائب الجِلديّة المُبهِجة التي يرميها في قعره كلّ سنة ويرمي معها ضحكاته وانتصاراته. ثمّ إلى اليمين قليلاً صناديق المشاوير، وملفّات الزيارات والواجبات، وأكوام الفواتير من الطبيب والناطور وعامل الموقِف. في زاوية أخرى وجَد غلاف سكاكر فارغ أعطاه إياه طفل في الحافلة، غلاف فارغٌ إنّما ملوّن. ابتسمَ وهو يتناوله مُظهراً أسنانه التي أهلك لونها التدخين وأضاعت جوانبها اتّكاءات السجائر، ثمّ أشاح بوجهه إلى الوشاح الأسود. ذاك الذي لبِسه عزيزٌ في حداده على عزيز آخر.. قبل أن يغيب الاثنان.

من تحت الأغراض يُطِلّ غلاف كتابٍ كما نور الشمس في يوم ممطر. خجِلاً، يُذكّره بيومٍ جميلٍ، وقصة جميلة، ونهاية مضى على انقضائها شطر من الزمن. وإبرة وخيط رتق بها حوادث عابرة.. خاطَها أحداثاً كان يمكن لها أن تقفز من مخيّلته إلى الواقع لولا شيءٌ ما، لم يكن يملكه. وورقةٌ لزهرة لم يشأ أن يقطفها، وكوبٌ أخذ القرار فجأة بأن يُحيلَه إلى التقاعد، وتنهيدة على شكل أزرار قطعها عن أصلِها في لحظة غضب، وحبر على قطعة قماش، خانَه يومَ أراد البَوْح.

سمع الجرس يُدقّ. لقد أطال الزيارة هذه المرّة. أخرج رأسه من التابوت، وتناول بأسىً، أو ربما فرح، الكومة التي أتى بها. حمَلها بعجزٍ كاضطراب أمّ تسمع للمرة الأولى بكاء ابنها، ثم رفعها حتى وصلت إلى حافّة التابوت ودحرجها إلى الداخل. ألقى نظرةً أخيرة، ربّما لن يتّسع التابوت لعودةٍ أخرى، أو قد يبتلع شيئاً ممّا يُلقِمه فيفرغ مكاناً للجديد.

وضع يديه على حافّة التابوت، ثمّ دفع نفسه وقوفاً. ابتلع أكبر كمية من الهواء الذي يحسّ به يتسرّب من رئتيه المتهالكتين، فشمّ فيه رذاذ الذكريات. ابتسم، لكل الخيبات والضحكات، ثمّ همّ بإغلاق التابوت ليبدأ رحلة البحث من جديد؛ رحلة البحث عن بائع الوقت الذي قد يطيل عمر يومه قليلاً فيجد متّسَعاً لفعل ما يريد، لا ما يجب.

حنان فرحات
بيروت
في كانون الأول 2016

 •  0 comments  •  flag
Published on December 11, 2016 07:52

November 26, 2016

في الليل

يكتبون الليل يا عزيزة،... يُفنّدون على الأسطر معانٍ قاصرة عن وصفه، مجحفة في حقّه، ثم يقدمونها على أطباق للذواقة. لذا اسمحي لي أن أفشي لهم قليلاً مما أعرف عن رداء السواد الذي تلتحف به الأرض كلما قررت أن تنام.

الليل، يا أعزاء، وشاحٌ ذو لون داكن، بأطياف متعددة. هو الدفء للأحبة، والبرد في الغربة، والظلم في كُنه الغيابات، والحزن في عين المفارق، والبسمة على شفاه الحالم، والضحكة في قلب المُريد للشيء المُستحصل عليه.

الليل احتضان الوالدة ابنَها كي ينام، وقصة يتلوها الوالد ليُحسّن نوعية الأحلام. والليل دعاء جدة للأبناء والأحفاد، وراحة للمتسول من مدّ اليد للمارة من الأغراب. والليل فسحة لِساعدٍ أنهكه معول النهار، واتّكاءة لرأس أثقله حِمل الأفكار. والليل ستار لدمعة شوق، أو يأس وإذعان.. واحتضان لسجدة شكرٍ وامتنان.. ومعقِل طلبات السائلين من رب العالمين.

الليل، يا صديقُ، قيلولة الشمس بعد إذ صعدت جاهدة إلى وسط السماء، والليل يا عزيزي استراحة الغيوم. والنجوم، يا صديقة، لألآت تُحصيها الغربان كل ليلة، حتى إذا ما شارفت على الانتهاء باغتتها إشراقة الصباح.

وأمّا حبّات البَرَد فدموع الغيم ليلاً حين يشتد الأمر على الضعفاء، وأما حبيبات الندى فدموع الفرج يتهلل بها وجه الأرض كلّما حلّ الربيع.

والليل بعيداً عن هذا وذاك، دكان مغلقة، وستار مُسدَل، وباب موصدٌ، وأغلال محكمة، وأجفان؛ مطبَقة أسيرة الهواجس والطموحات، أو مشرعةٌ يثبّتها الأرقُ من عُلوٍ وسُفل.

والليل يا أعزاء شارع يقف فيه، وحيداً، عامود الإنارة، وآخر تَغُصّ به سيارات المُنهَكين، وثالثٌ تشقّ سكونَه أنفاسٌ حيارى. والليل حديث يطول، وآخر مبتور عند آخر لقمة عشاء أو آخر رشفة شاي، تماماً كما الآن.

حنان فرحات
الرفيد 26-11-2016

 •  0 comments  •  flag
Published on November 26, 2016 12:33

November 8, 2016

يوم جاء الشتاء

جاء الشتاء يوماً بينما كنا نياماً. لم يطرق الباب حتى.. انسلّ من الشقّ في الحائط حتى وصل إلى أطراف أصابعي فاستيقظت.
أحياناً لا تحتاج الدفء بقدر ما تحتاج الإحساس... البرودة أيضاً تستطيع أن تفي بالغرض.. القطرات التي تتسرّب بانتظام من المكان ذاته، نمرّ دائماً من تحتها مع أننا نعلم بوجودها، ولكننا نعود لنسهوَ فتُبلّلنا.. الصقيع الذي يسير بمحاذاة النافذة فيترك أثره عليه ببخار دون أن يضطر للدخول، لكنه بذلك يدخل.. الغيوم التي تمرّ تباعاً فتحول بينك وبين الشمس.. الإشارات التي تتلقّاها دون وعي، والأفكار التي تتعثّر بها، كلها قد تكون إنذاراً للحاجة بالدفء، وبالتالي مصدراً له.
يكفيك من الشتاء أن تدرك مجيء الربيع من بعده لِتُحبّ وجوده.. فالشيء المُتبَع بالغياب له متعة خاصة.. وكذلك الأشخاص.. إن المسافات التي تفصلنا عمن نحب أحياناً تكون فرصة لتجديد العلاقات والتغاضي عن التوافه التي تنغّصها.. وإن الابتعاد عن الأماكن التي نحب يُكسبها رونقاً خاصاً.. بل إن الإقامة المؤقتة تدعونا للتشبث بالتفاصيل.. الأشياء المملة، والمنهِكة، والرتيبة الرمادية، كلها تفاصيل تحنّ إليها بعد أن تزول.. لذا فإنك حين تبتعد، تترك في موطنك الأصلي جزءاً من الحنين لما كنت تكره في حال استقرارك.. وحين تعود تترك جزءاً من الحنين لما كرهت في بُعدِك.. وهكذا تُمضي الأيام في الحنين إلى هنا وهناك.. وما ذاك إلا جزء من قرارة نفسك، يهفو دائماً إلى ما ليس في اليد.. وبين هنا وهناك، يمكنك أن تمضي وقتك بالتذمر، أو بالاستمتاع بالتفاصيل، حتى البشعة منها، لأنك تدرك تماماً أنها قد لا تعود.

 •  0 comments  •  flag
Published on November 08, 2016 09:14