Hanan Farhat's Blog
November 28, 2024
قبل غد -٣
حبيبتي،غادرنا منزلنا مرة أخرى، بعد أن استيقظنا في الرابعة فجراً على صوت انفجار هزّ بيروت. لقد قصفوا "البسطة". من كان يظن أن العدو يجرؤ على فتح حرب على اتّساع هذه الجبهة؟ أما الآن وقد جنّ جنونه، فلم يعد أي شيء مستبعداً.ولربما يا ماما لم يكن ذلك مستبعداً منذ البداية، ولكننا نمنّي أنفسنا بالأمان حتى نستطيع "الصمود".كبيرة هي هذه الكلمة.. تساوي في الواقع "البقاء" على بساطته.كنت أشتري الورد كما أفعل في العادة، كي أجعل أيامنا "كالعادة"، أشرب المتة "كالعادة"، أطهو ونفرح ونغني "كالعادة"... وفيما نعيش كالمعتاد، كنت أحفر تفاصيل المنزل في مخيلتي وديعةً.ولمّا أزفت الساعة، بكيت."لا أريد المغادرة.."كنت أريد أن أصمد كما فعلنا في حرب لبنان-تموز ٢٠٠٦ بقرار من والدي. لكن الأمر لم يكن سهلاً. عيناك فجراً قلبتا المعادلة.بكيت فيما أوافق على المغادرة، فيما أوضب الحقائب كما لو أنني أغادر لمئة عام، فيما نغلق باب المنزل، وفيما نبتعد..
ليلة إعلان وقف الحرب، كنا عند بيت عمتك. أنا وإياك، في مسكننا الجديد إلى أمد بعيد.حجرتنا التي سنعتاد، ونحكي قصة ما قبل النوم، ونغني، ونستيقظ كما تحبين.والدك كان في بيروت، يتابع عمله في المستشفى. وإذ ترددت الأخبار وترنحت ذهابا وإياباً بين وقف النار واستحالته، بين إعلانها عند السادسة مساء بعد اجتماع الكابينت الاسرائيلي، أو عند الثامنة بعد أن تأجل الموضوع لأمر غير معلن، أو عند العاشرة بعد أن ينطق بها المسؤول الأميركي "رفيع" المستوى... بين وقفها بشروط غريبة عن المنطق والواقع، وبين توقيتي واشنطن(العاشرة صباحاً) وبيروت (الخامسة فجراً)... بين أرواح ستزهق في الوقت الضائع بينما يتمازح مسؤولان على عتبة صالون رئاسي ما.. وبينما يقرر أشخاص مصائر شعوب منتظرة، فيما يبقى الحق حقاً، والواقع واقعاً، والقضية الأولى -غزة الأبية- وحيدة من غير نصير إلا الله... بقي والدك كي يزداد الخوف في بيروت.
بين كل الأرقام؛ عدد الشهداء، ومساحة الوطن، وعدد المفقودين، والأبنية المدمرة، وكلفة إعادة الإعمار.. بين الذكريات التي دفنت تحت الركام، وأدخنة الضربات الأخيرة... بين الصلوات التي أقامها العائدون على رفاة بيوتهم، والجنائز المؤجلة، والجثامين المودعة في غير قُراها.. بين العائدين على حافة الانتظار... الواقفين على حدود قُراهم الجنوبية، التي مُنع عليهم دخولها إلى ما بعد ستين يوماً يتمشى فيها العدو في أحيائها على عين دولةٍ وبموافقتها، أو عدمه..
صبيحةُ اليوم التالي، يا ماما، كان عرساً آخر، بنكهة الموت. كان للكثيرين خسارات أخيرة، وأثمان تدفع قبل الزغرودة.ركبت الأحمال سيارات النازحين، المنكوبين.وبدأ المشوار الطويل، مشوار العودة الذي مهما طال، لن يكون أطول من الانتظار..اختلطت الفرحة بالدمعة..أما أنت وأنا، فانتظرنا فرحتنا الكبرى؛ والدك، والمنزل الذي يصبح قصراً حين يُطلّ إليه.
دخلنا بعد أربعة أيام، كأنها دهر، بريبةٍ مقلقة. هل لن نخاف صاروخاً مجدداً؟ ماذا نفعل الآن؟ من أين نبدأ حياتنا "المعتادة"؟سؤال جديد، وكيف تكون الحياة بلا سؤال؟يطيب الكلام معك يا قلب قلبي، ولكن الوقت لا يتسع.نجيب عليه في رسالة أخرى، أو في حياة.
مامابيروت، بيتنا، ٢٨ ك١ ٢٠٢٤
November 21, 2024
قبل غد - ٢
شهدودة الحبيبة..
كل يوم تختارين لك اسم دلع جديد، ولو إن اسمك أجمل من كل مشتقاته.. ولكنني أنصاع لك انصياع المُحب لا انصياع الضعيف..
أكلمك اليوم عن بيتنا، بعد أن ظننتُ أن لن يبقَ لكلماتي إلا جدلية الموت والحياة.. كم مر هذا الأسبوع ببطء، كل يوم منه بسنة.. جاورنا فيه الموت حيث حلّ على الحيّ المجاور، وأخبار التصعيد والإخلاء، ومعلومات خجولة عن وفاق ووقف إطلاق نار.. وفي خضم ذلك كله، حاولت كثيراً أن أحفظ معالم بيتنا لعلنا اضطررنا لإخلائه..
والحق يا ماما أنني كنت كلما نظرت إلى زاوية منه عاتبت نفسي كيف كدت أنساها.. تحفة ابتعتها من محل تجاري عبرت من أمامه أسبوعياً لسنة قبل أن أعتزم الدخول إليه.. قماش الكنبات وكم احترنا حتى اخترناه.. الصحن الذي أسكب لك طعامك فيه.. الرفّ الذي امتلأ مستحضرات تكدّس عليها الغبار.. هل أضيع حبي عليها، أنا التي حكّمتُ عقلي على قلبي حتى ملّ؟ ثمّ يا ماما، حاولت أن أقنع نفسي أنني إن أخلينا-لا سمح الله- سأحظى بفرصة تأثيث منزل جديد.. من يدري، قد يكون أجمل؟ لكن من قال إنني أريد غيره؟ من قال إنني سأحب لزوجي أن يقبل علينا من باب منزل آخر؟ ماذا عن لمساتك التي تتركينها على جدران المنزل؟ الملصقات التي تتوزع على ألعابك وسلال المهملات؟ آثار قلم الحبر على الطاولة الخشبية البيضاء حيث رسمت أولى لوحاتك؟ السجادة حيث سكبت الحليب بالشوكولاتة ثم بكيتِ؟ من قال إنني أبيع ذكرياتي لأجل تجربة جديدة... ما الممتع في تأثيث بيتٍ لا ذكريات فيه؟ لا قصص، لا صدى ضحكات؟ لا حرفاً أول؟
شهد الصغيرة...
لقد عزمت كثيراً أن أكتب سابقاً، عن منزل أحلامي.. ذاك الذي لا أريد لعائلتي أن تضيع فيه.. منزلي الذي أكون ملِكته.. أخبز فيه الكعك وقوالب الحلوى بالقرفة والتفاح، وأتحايل على أبنائي فأستبدل السكر الصناعي بالتمر والموز... منزلي الذي أصرخ فيه على أبنائي كي يستيقظوا، للمرة الألف، قبل أن تفوتهم حافلة المدرسة.. غرَفُه كبيرةٌ ليمدّ كل طفلٍ رجليه فلا تصطدم برأس أخيه، صغيرةٌ بحيث لا يغيبون عن أنظاري.. نرسم سوياً أيامنا، بنكهات شتوية باردة، على وقع صوت مطر بيروت الصارخ.. نشرب الشاي بالنعنع، أو القهوة بالحليب.. أو أخرى صيفية حارّة، نقاومها بكأس مخفوق الفراولة المثلج..
أي حبيبة..
هل يأتي علينا خريف آخر، أراسلك فيه عن خريفٍ مضى لم أحظَ بذكرى لطيفة فيه؟ هل أكلمك عن الخوف أم أمحوه كي لا يعكّر صفو أيامك؟ هل تجعلك قصصي أقوى، أم تُشعرك بالذنب؟ هل تجدين أمنياتي ساحرة أم مسرفةً في الحلم.. هل يبقى لنا بيتٌ، تكبرين فيه؟ هل يُسعفنا الوقت فنشهد على أمنياتك تتحقق؟ أم يسبقنا القطار فنقف على عتبته ملوّحين؟ هل يأتي يومٍ تنتهي فيه الأسئلة؟
هل يكبر البيت معنا؟ يشيخ؟ تبيضّ لحيته، وتغور عيناه؟
هل يبكي، حزناً وفرحاً؟
هل يسمعني أكتب لك قبيل منتصف الليل، على وقع أنفاسك النائمة؟
وهل يدرك أنني أحببته أكثر، حين ذكرتِهِ فقلتِ بحرفك الجديد؛ "جينا على بيتي؟"..
حماك الله وبيتك وسكان بيتك.. ولا حرم الله طفلاً ولا قلب أمه من بيته..
إلى رسالة أخرى،
كوني بخير..
ماما،
بيروت ١١.٥٩
٢١ ك١ ٢٠٢٤
November 18, 2024
غدا
قصيدة،
مكسورة الأطراف،
لا تعجب أعزّ الناس؟
نشذّب أطرافها،
كشجرة،
كانت أقصى أحلامها أن تثمر،
فشذّبها فلّاح،
يده ليست بخضراء،
فلم يعد لها حلم..
ولم يشتد عودها..
هل لنا صوت،
بعد صوت الصاروخ،
نثني أعناقنا حين نسمعه،
كأننا نفوت الموت للمرة المليون..
هل لنا صورة،
تعجبنا حين يحلّ الرحيل؟
هل لنا أغنية مفضلة؟
آية قرآنية تعتلي الخبر،
ولا يكاد يُحزن علينا،
إذ تكثر الخطوب،
وتتوالى الأرقام،
ولا تبقى أوراقنا..
ولا حواسيبنا..
ولا كلمات السرّ لبريدنا..
هل لنا كلمة أخيرة،
قبل الوداع..
هل كانت إلى اللقاء؟
أم "يا فرج الله"،
أم " الله بيعين"..
هل كان لنا موعد مشترك،
أهداف بعيدة..
خطط، ووعود..
هل كان لنا عمرٌ، ننتظره،
ليس لنا..
هل لنا غدٌ،
أو غداً،
مربض في الجنة،
على قدر طموحاتنا،
أو على قدر أعمالنا..
أو على قدر رحمة الله..
هل لنا من إجابة،
تتسع لكل الأسئلة؟
١٨ ت٢ ٢٠٢٤بيروت
November 14, 2024
قبل غد - ١
November 1, 2024
أنا بخير ولكن..
أنا بخير، ولكن..
ألو،
أنا بخير، ولكن..
نافذتي المشرفة على البحر صارت جزءاً من البحر،
وغرفتي التي يجتاحها الصخب نامت أخيراً،
وفستاني المفضل أصبح فستاني الوحيد..
أنا بخير، ولكن..
أخي وعيناه اللتان بلون القهوة صاروا رماداً،
ودراجته التي ودّ لو يزور بها أحلامه صارت حطاماً،
ولم يبق منه إلا حذاء أنتعله على عجل في طريقي إلى الذكريات..
أنا بخير،
ولكنّ أختي،
التي صففت شعرها الأسود العادي،
ورصفت كلماتها بعناية على دفترها المدرسي،
وسألتني كلما لاح في عيني الحزن، لمَ أبكي،
بصوت أمّ،
بعثر الموت شعرها قبل أن تضيع خصلاته بين الركام..
أنا بخير ولكن،
قطتي التي لم يحبها أحد،
وأصيص وردتي التي لم تعش،
وكرّاسة أهدافي اليومية،
كلها بقيت في "البارحة"،
حيث يمكن للأشياء العادية أن تكون..
أنا بخير ولكن،
لم يعد الماء ماءًا..
ولم يبقَ لي جدارٌ أتكئ عليه،
وكل الأكتاف ملّت البكاء...
أنا بخير ولكن،
هل أستطيع ألا أكون بخير؟
حنان فرحات | بيروت
١ ت٢ ٢٠٢٤
October 24, 2024
أغلقي الباب
اقبضي الجرحَ،عَهِدتُك،ليس تؤذيك الخطوب..ما لدمعٍ يستقرّ،بينَ هرمل والجنوب؟
ما لقلبٍ لم يبالي،حين رقّعه الطبيب...ضاق فيه الكون لمّا..ضامه بعدُ الحبيب..
ما لروحٍ لم تعاني،من بعادٍ في رخاء..تشفقُ اليوم على جدران بيتٍ من جفاء..
ما لحرفك،أسكتته الضائمات الجائرات..بين سطريه قذيفة،هل يهاب الطائرات؟
ما لتفصيلٍ يعادلنقطةً في بحر همّ..يصبح اليوم قضيّة،يسأل كيفَ ومن..؟
حنان| شحيم٢٤ ت١ ٢٠٢٤
October 11, 2024
نص في غير موعده
ولما جئت يا أيلول، ملأت أوراقي بالمخططات والمواعيد... وصرت أركض أسابق الوقت، وإذ بك تغادر قبل أن أنهي ما بدأت.لم تنته القصة، ولم تتحقق الأهداف، وصار البال مشغولاً بأشياء كثيرة جدا، لا يتقاطع أي منها مع أيامنا في الماضي القريب.
هل أحبك بعدما تعذر اللقاء؟ أم أشتهي منظر الشجرة الذي اعتادته عيني من نافذة المطبخ، مصفرة أوراقها لأيام قليلة؟لم أكفر يوماً بالروتين، ولم أتأفف مرةً من العادة، ولم أنس يوماً أن السقف الذي يظلل رؤوسنا، والجدران التي تعانق قلوبنا، والغرف التي تختزن ذكرياتنا، هي نعمة كبيرة لا تقدر بثمن... ومع ذلك كله، أصابتنا الفُرقة..
ولو أنك يا أيلولَ المدينة غيرُ أيلول الذي اعتدتُ طوال خمس وعشرين سنة، لكنني ألِفتك، وتواطئت معك على فرح مستتر، وأحببتك كما لو أنني أعرف الفصول لأول مرة..
وها أنت ذا ودعتنا على عجل، وجاءت رسالتي إليك متأخرة، لا أعرف أأحمّلها في طياتها الشوق أو العتاب.. ولكنني إذ أكتب لك، أدرك أنني قد كبرت.. صارت لي تفضيلاتي الواضحة بعيداً عن المجاملات.. وصرت أنت موعداً لا يُضرب بمحض الصدفة..
إلى لقاء آخر إذا كَتب الله لنا عمراً..
حنان فرحات | شحيم، ١١ ت١ ٢٠٢٤
September 27, 2024
شِعرٌ للبيع
من يشتري أدباً،أوضّبه،على عجلٍ،وأحمل حبي المجنون،والموزون،بأكياس،على رمشٍ،على الهُدب..
فما الداعي؟وأين الحاجة العظمى،لموهبةٍ،وكلّ العمرِ والأحلام، أحملها،فتخرق كيسيَ الأشظاء،وتسرقها على مهل..
أتكفي،جملةٌ ثكلى؟ بلا معنى؟بلا صوتٍ،بلا لونٍ،بلا حبرٍ،أصفّفها،على كفنٍ، بلا قُبَلِ؟
أيكفي الحبر، في قلمٍ،بلا لقبٍ،يرصّ الحرف تلو الحرف،بهتاناً، بلا كلل..
وأين شجاعة الفرسان،ممن يكتب الخبر،"شهيدٌ بيننا انطلق..إلى عليائه، ومضى..شهيدٌ آخرٌ معه،وآخر لم يُطق صبراً"
وأين الاسم من هذا؟وهل ذا يصبح "السّبَقَ"؟على نشراتِ أخبارٍ،تُسائل رفقةً وصحاب،عن الميت الذي "رُزِقَ"..
خذوا الأدب،خذوا شِعري..فقد جفّت معاني العُرب،خذوا مني،خذوا عني،فهذا الكفّ قد تعب..
حنان | بيروت | ٢٨ أيلول ٢٠٢٤
February 29, 2024
رطب شفاهك
أغمض عيونك لا ترَ،ضوءُ المحاجر قد عمي...
أنثر طحينك في الثرى،أشبع نسور المَطعَم،
ما جاع شعبٌ، ارتقىلو بات ليلاً يألَمِ...
شعب يسير إلى السما،يكوي الجراح، ويلعنِ...
من يرتجيه لهدنة،أو فرصةٍ،أو يفتديه بمرهمٍ،أو يستعيض ببلسم..
رطب شفاهك، بالدم،شعب الأباة لا ينحني،
هم عزة،في غزة.من أنت يا، كي ينحني!
حنان فرحات٢٩ شباط ٢٠٢٤ | 11.33 pm