ŷ

Hanan Farhat's Blog, page 12

January 14, 2016

نوبة جنون

يوم رفضتُ أن أنادى بالكاتبة، قيل لي : إقرأي هذا المقال.. ليس هناك سنّ محدّد ليصبح المرء كاتباً، ولا غرور في اللقب.. لكن إحرصي على الصّفة التي تلازمه. لا تكوني كاتبة. كوني كاتبة جيّدة. لكنّ الصّفة المتلازمة تحتاج وقتاً كي تثبت جدارتها. وقبل ذلك، تحتاج جنون اللحظة الأولى. والجنون يعني أن تَعرف حجم المخاطرة التي تخوض غمارها، ثمّ تُقدِم عليها دون أن تحسب حساباً للنتائج.نحن نقضي أعمارنا نتعلّم كيف نرسم طريقنا.. نضع الخطط البديلة، و نقيس مدى الخطورة.. نتوقّع أسوأ الإحتمالات حتّى أنّنا نضيع بهجة الأشياء. يفوتنا أنّ المشاعر والمبادرات القيّمة تكون وليدة اللحظة. لا مقياسَ يقيّدها بسقفٍ عالٍ ولا بحدِّ انخفاض. يفوتنا أنّنا، حين نُقدم على ما يستحيل على عاقل أن يفكّر به، نكون على قدرٍ عالٍ من التسامح مع الذّات.حين تنتابنا نوبة جنون، ونعلم أنّنا سنُتّهم بالغباء حين نشي بسرّنا لأحدهم، ثمّ نُقدِم على ما نريد بإصرارٍ يعني أننا نسمح لعقلنا الباطن أن يُخرج ما فيه دون أن تدفعه النصائح إلى الهاوية. لذا، فإنّني في هذه اللحظة المجنونة، أوجّه رسالةً إلى كومةٍ باردةٍ من الأوراق. أعلم أنّ القلم الذي يختبئ تحتك ينعُمُ بالدّفء. لكنّه لم يوجد لذلك. اكشفي عنه بعضك، فإنّكِ إن لم تأخذي المبادرة، عاجلاً أم آجلاً، ستُعرّيهِ رياح الشتاء. أكتب لمن يُحجم عن البوح لأنّ في يديه أغلال الكبرياء. أكتب لمن يدفن أحلامه بحجّة الظروف... لمن يقسو على من حوله بحجّة الطَّباع.. أكتب لمن يطلب الكثير ثمّ يتراجع إن أُعطي.. لمن يقدّم كلّ شيءٍ ثم يستعيده.. لمن يَعِد فيخاف أن لا يفي بوعده فيضعُف ويغادر.. إلى من يكسر من حوله وهو يحاول رتق جراحه.. أكتب إلى من يظنّ أنّ الفرص تذهب وتجيء.. وإلى من يظنّ أن الدراما لم توجد إلا في المسلسلات... أكتب لمن يردّد جملةً، ثمّ ينسِبُها للروايات..إلى كلّ أولئك أقول: الروايات تُكتَب من واقع. والدراما تُستوحى منه. والمعجزات التي نسمع بها قد حصلت يوماً ما على كوكبنا.المستحيلات التي لا نؤمن بها لن تحصل. والفرص التي نفرّط بها لا تعود. الأسوأ من الكوابيس، من يُصبِح حلم يقظة ثمّ يتوارى. و الأفضل من حلمٍ، حلم يتحقّق. وكلّ ذلك يحتاج كمّاً هائلاً من التضحية.حين تطلب طبقَ طعامٍ غريب عليك، حين تجلس للمرة الأولى خلف مقود السيارة، حين تجرّب بصبيانيّة أن تحمل لفافة السجائر، حين تحضُر مقابلة العمل لأولى، حين تشرب أوّل فنجان قهوة عند أهل عروسك، وحين تُعبّر عن مشاعرك للمرة الأولى. تشعر بدمائك تفور.. بشيء يجنّ في داخلك.. شيء لا يجب أن تفرط به لأنّك ببساطة تملك حقّ الشعور به.. كن على سجيّتك دون أن تفرّط بالفرص والأشخاص. ليس عليك أن تمضي حياتك كعاصفة لا تدري أين ستحطّ رحالها.
 •  0 comments  •  flag
Published on January 14, 2016 02:42

January 9, 2016

حين لا أقدر على شيء..



في الوقتِ المناسب تماماً لإفراغ الغضب في سطور، أفقد كلّ قدرة على الكتابة..كلّ قدرة على التعبير.. كما لو أنّ يدي تيبَسُ عن المشاركة في الإستنكار.
أذكر تماماً كيف تسمّرت عيناي على صورة طفلٍ مرميّ على الشاطئ، نائماً للمرة الأخير بسلام.. وقبلها على هيئة إنسان يُحرق.. وقبلها وبعدها على أكوامٍ بشريةٍ لفَظَت ما تبقّى فيها من حياةٍ إثرِ مركّبات كيميائية كان من الأجدى أن يدرسها الإنسان ليُطوّر الواقع البائس.. لكنّ جلّ ما حصل كان بداية –عس� أن لا تكون مؤلمة- لرحلة ما بعد الحياة لأرتال من الحيوات.
كنتُ، حين أقرأ في أدب السّجون، أتفكّر فيما يدفع إنساناً مظلوماً ليرضخ لسلطة مستبدّة.. كيف يسكتُ من يُهان بسوطٍ أو سباب أو هتك عرض.. أو كيف لا يقوى جمع السّجناء على الانتفاض والانقلاب ضدّ من لا يشعر بوخز الضمير.. ثمّ أدركت متأخّرة أن الحياة كلّها ساحُ سجنٍ كبير.. القويّ فيها من يسترضي جلّاده، والشّجاع من يقوم لِحَقّه، والذّكي من يكون قوياً وشجاعاً في الوقت المناسب. والحقّ أنّ كلّا منّا جلّاد لنفسه.. يستطيع أن يأبه لحال غيره فيروّض الأنانيّة التي جٌبِلَ عليها ويحولها إلى إنسانية خالصة لا تتعصّب لجهة فتتوحّش على ما عداها..
اليومَ أكاد أتغلّب على الصّمت الذي يعتريني كلّما برزت صورةٌ تمثّل بشاعة العالم الذي نعيش فيه، مع أن لا شيء يُقال أمام تخاذلٍ أوصل أربعين ألفاً نصفهم من الأطفال إلى حافة الموت جوعاً..
أتكلّم لئلا يُترَك أحدٌ يُحدِّث بتحاذقٍ فيقول: "أنا ضد التجويع في "مضايا" لأنني أطالب بسياسة الحرق الكامل"،
ولئلّا يظنّ من يؤكّد أنّ الأمعاء الخاوية والأجساد التي تكاد تتهاوى لا تعدو كونها "فبركةً إعلامية منذ بداية الثورة السورية" أن لا أحد مبصِرٌ لكذبه..
ولئلا يتمادى من يوظّف صوراً من مجاعات أفريقيا -التي كان يدّعي بالأمس ضرورة دعمها - لأهداف هزليّة تحطّ من شأنه لا من شأن إخواننا في مضايا المنكوبة..
صوركم التي تنشرونها أمام ثلاجاتكم المليئة بالطعام، مستَخِفّين بإخوة يغلون أوراق الأشجار كي يسكتوا جوعهم لن تؤخر أصحاب الأيادي البيضاء عن مدّ يد العون، وستكون شاهدةً عليكم يوم القيامة.. إنّ الله يمهل ولا يهمل.
لدعم #مضايا من لبنان:
 •  0 comments  •  flag
Published on January 09, 2016 10:54

December 22, 2015

الساعة 02:45 ب.ظ.


ذَكَرتُ اليومَ فأرة رماديّة أصغر من قبضة كفّي، فاجأتني بزيارة السّنةَ الماضية.
كنت أستعدّ لصفِّ ما بعد الظّهر، ولمّا يتبقّى الكثير حتى يحين موعد انطلاقي إلى الجامعة. إلتففتُ حول الدَّرَج لأتناول حذائي وأغادر المنزل قبل أن تصل الحافلة فلا أتأخّرَ عليها، ثمّ فتحت باب الخزانة. لا أدري كيف حانت منّي التفاتةٌ إلى الزّاوية بجانبي، وإذ بها تقف مشرئبّة العنق تتطلّع إليّ. لحظاتٌ مرّت ونحن نحدّق ببعض، نفكّر –كِلان�- إن كان علينا الهروب! ثمّ قرّرَت الفأرة أن تتقدّم إلى الخزانة وتعتلي أحد الأحذية فتنظر إليّ بإمعان أكثر..
ما أعجب أمّي من الحادثة كلها كان إجابتي على "ماذا فعلتِ؟".. قلتُ لها أنّني لم أصرخ لأنّ أحداً لن يسمعني.. هذا عدا عن كوني مستعجلةً لاتّخاذ التدبير المناسب قبل أن أغادر.. بحثتُ عن شيء أرشّها به فتخرّ صريعة. ضحكَتْ وقالت: " أتوقّعتِ أن تجديها عندما تعودين؟!". في الواقع، نعم. توقّعت أن أجدها عندما أعود، ذاك لأنّني لم أُخِفْها.. فلمَ الهرب؟ لكنّني لم أجد ما أرشّ عليها فاكتفيتُ بإغلاق الخزانة وحبسها مع الأحذية تفترشها وتقرض ما أرادت منها ريثما يعود والداي ويحاسبانها على دخولها غير المشروع. ثمّ أحكمتُ إغلاق الخزانة بملعقة خشبية مددتها بين المقبضين، وعلّقت عليها ورقة تحذّر من فتح الخزانة لاحتوائها على الزّائرة الصغيرة.
المُهمّ في الموضوع ليس الفأرة، ولا كيف غادرت جثّتها المنزل، ولا حالة الاستنفار التي أحدَثَتها حتّى طُرِدَتْ، بل موقعُها في كلٍّ منّا. كتلةُ الجُبنِ التي تتملّكنّا.. الخوف الذي يسيطر علينا فيجعلنا نصرخ ونستجدي المساعدة حين تُلِمُّ بنا مصيبة، أو تكسر شوكَتنا حادثة.. لو أنّنا فكّرنا يوماً أنّنا وحيدون، ولن يسمع صراخنا أحد، ثمّ وضعنا كلّ حزنٍ نُصبَ أعيننا، وحدّقنا به إلى أن يهرب هوَ، لا نحن.. لو أغلقنا على كلّ اليأس الذي يحيط بنا باب الخزانة وحذّرنا الجميع من الإقتراب منه..
الكلام لا يُجدي حين نقرؤه أو نسمعه لمجرّد أنّه صيغ بجماليّة في التّعبير.. الخطوة التّالية يجب أن تكون لحظة خلوةٍ مع النّفس نقارب فيها بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، والقاعدة رقم واحد يجب أن تكون: "عندما تكون على يقين بأنّ أحداً لن يسمع صراخك، ستقوم بمواجهة الجبان الذي فيك". وحتّى ذلك اليوم، ستبقى تصرخ، وتستغيث، وتستجدي العونَ كلّما مرّت مصيبةٌ من بين قدميك.. أقصدُ فأرةً!
حنان فرحات22-12-2015
 •  0 comments  •  flag
Published on December 22, 2015 11:02

December 12, 2015

وجهٌ جديد





حين تتظر في المرآة صباحاً، تشعر بأنّك رأيتَ انعكاس صورتك من قبل.. لكن ليس بهذه الدّقّة. هناك خطوط جديدة ترتسم كلّ يوم بين قسماتك.. أحداث وتبريرات وتفسيرات لحدث واصطدام وردّة فعل، كان بسلوك أو كلام أو مجرّد تعابير وجه.. كلّ ذلك يرسم داخل الإطار ذاته، كل صباحٍ، وجهاً جديداً.
النّهار ذاته يبدأ عند البعض بقطعة شوكولا، فنجان قهوة، منقوشة زعتر، رقائق ذرة مع الحليب، أو جافّاً من غير فطور. وقد يتصاحب ذلك مع دعاء بالتّوفيق أو ""سمّة بدن" مغلّفة بإتّصالٍ مشؤوم أو ثقب في إطار أو حتى سائق متهور يكفل ارتفاع ضغط دمك قبل ارتفاع شمس الضّحى. لكنّ تراكم الأحداث التي تقع في الفترة الزّمنية ما بين مغادرتك فراشك صباحاً وعودتك إليه مساءً تشكّل مع مع الوقت مخزونَ ذكرياتك والأسس التي ستتخذ بالاستناد عليها ردّات فعلك وخطواتك القادمة.
وجوه جديدة تدخل في خضمّ الأحداث إلى دائرتك، ووجوه عزيزة تنسلّ خارجاً بهدوءٍ، دون أن تلحظَ الفراغ التي ستخلّفه حتّى قبل أن تغادر. سيصعب عليك تقبّل الأمر، فأنتَ حين تفتح ذراعيك لصداقةٍ أو زمالةٍ أو شراكة عمرٍ تزيل خيار إزاحتكَ جانباً عندما يتحتّم الأمر.. ولكنني لست أكتب لأثرثر عن أهمّيّة القناعة، فأنا لا أرغب –ول� لمرّة- في التّبرير لمن ينسحب عندما تتعارض أهواؤه ومصالحه مع التّواجد قربك.. لكن دعني أمسك بيدك ونذهب سويةً إلى آخر لقاءٍ كان لك مع الموت، المرّة الأخيرة التي بكيتَ فيها عزيزاً، والمرة الأخيرة التي فُجعت فيها بِفَقْدٍ.
الموت اثنان: حالةٌ أولى، قارسة البرودة، تتحجّر فيها ملامحنا فتيبس الكلمات.. ثم حالة أخرى، هي لحظةُ تصديق وقوع الحالة الأولى، وفتحٌ لِباب المُضيّ قُدماً نحو تجاوز المحنة.. وأمّا الأخيرة فتبدأ بنوبة بكاء تجعلها أشبه بيوم ممطر بارد، ستطلع بعده شمس تبخّر الدّموع وتدفئ الأوصال.. نوبة قد يطول بها الوقت قبل أن تأتي،.. لكنّها ستأتي. وقد قيل لي من قبل إن بعض الأسباب لا يجب أن تُعرف، فلو أن من الحكمة معرفة كل شيء لَأَطلعنا سبحانه وتعالى على الغيب.. ولا أرى سؤالاً تلهج به الألسنة في حضرة الموت أكثر من "لماذا؟"، ولا أرى أبلغ من الصبر والإيمان بقضاء الله وقدره إجابة عليه. وهذا فيما يخصّ الفقد الأعظم.. فكيف إن كان يتعلّق بخسارة فرصةٍ، أو إغلاق باب رزقٍ، أو إطباقِ شفتين عن الحديث معك، وكلّها مما يقدر عليه العبد بعون الرّبّ؟
عُلِمتُ صغيرةً أنّ الإنسان جُبِل من النّسيان. قد تلزمك حفنة أمتار في بعض الأحيان، لتفصلك عن كل ما حولك. الإبتعاد قليلاً يموّه التفاصيل، ويطهّر القلوب. والابتعاد كثيراً في أحيان أخرى أصفى للنّفس وأدعى للحفاظ على المودّة مع من لا تخصّهم اضطراباتك النفسيّة وتقلّباتك المزاجيّة. من الحصى ما يُرمى ليعكّر صفو المياه، لكنّ منه أيضاً ما تُشكَّل به اللّوحات وتُبنى به الصّروح. لذا، إجعل من هفواتك والوجوه العابرة دروساً تؤكّد لك أن لا ربح حقيقيّاً في الحياة الأولى.. لا شيء سوى محاولاتٍ لتفادي الخسائر.. أحياناً من فرط سعادتنا نظن أن الصُّدف بتيسير من الله لما نريد.. ثمّ نقع، فنفسّر ما جرى بخير تجربة لن تعاد. ثم نقف، ونعزم على السير مجدداً. نصمم على أن لا نقع مرة أخرى.. لكننا نخطئ حين نظن أن تجربة لن توقعنا مرتين.. فالحفر ليست واحدة، المسير فقط واحد. ووحده الله من خلفنا ومن أمامنا، يلتقف خواطرنا حين تقع. لذا، توقّف عن تهشيم صورتك. ليس من الضروريّ أن يمدحك أحد لتكون جيداً. يكفي أن ترى كل صباح في مرآتك ابتسامتك. يكفي أن ترى وجهك من جديد.. كأنّه جديد..

حنان فرحات4-12-2015




 •  0 comments  •  flag
Published on December 12, 2015 04:58

December 1, 2015

رِجلا محمود


مستوحاة من قصة حقيقية
"قلبي يتسع لكم جميعا.."، هكذا كانت تقول أمي عندما يسألها محمود إن كانت تحبه أكثر مني، وهو كان يرد بأنه سيبسط رجليه بما أن المكان واسع في قلبها.نعم، كان واسعا جدا..كان واسعا بما يكفي ليستقبلنا بشوق عندما نعود من العمل تماما كما كان يفعل عندما كنا أطفالا صغارا..باللهفة ذاتها لإطعامنا كما لو أننا لم نأكل منذ دهر، مع أنها تحرص على إطعامنا صباحا قبل أن نغادر وتعطينا ما يكفينا من الطعام كي لا نجوع..بالخوف ذاته علينا من أن نبرد إن لاح الشتاء من بعيد، فتغرق أسرتنا بالأغطية والملاءات التي تكفل درجة حرارة تستقر على 40... بالحرص ذاته الذي يمنعنا من التلذذ بالبوظة إن ما بدأ الخريف كي لا يصيبنا السعال، والذي يغلي لنا التين الأسود والسفرجل إن ألمت بنا كحة ثم يذيب العسل بمياه فاترة ويتبعها برقية ولوم للحساد.. كف أمي كان دائما ولم يزل أدفأ من مدفئة، والنوم في فراشها أسرع مفعولا من مسكن آلام، ودمعة من عينها أصعب من طعن السكاكين، وبسمة على وجهها أبهى حلة من طوق ياسمين.قلبها كان الذي يتكلم عندما تنبهني أن لا أشبع قبل أن يشبع أخي، فصرت لا آكل قبل أن يأكل.. وقلبها الذي كان يؤنبني عندما أخطئ فيكون درسا أحفظه كي لا يؤنبني غيرها عليه.. وهو الذي كان يحرسني بدعاء يتناغم مع دقاته.. وهو الذي لا يفتأ يتعبني بعزة النفس إن احتاجت هي لكوب ماء..قلبها ذاته الذي يتسع للجميع، أنهكه الجميع. أصبح ينبض بتثاقل، فيصمت ويتغاضى عن المشاكل.. حتى لم تعد المشكلة إلا فيه.قال الطبيب إنها تستطيع استبداله بآخر، مع ضآلة احتمال نجاح العملية.. لكنها رفضت.خافت أن لا يتسع قلبها الجديد لرجلي محمود.
____________حنان فرحات
30-11-2015
 •  0 comments  •  flag
Published on December 01, 2015 10:46

November 22, 2015

كلنا للوطن أم عليه؟



يقترب طفلٌ ليُسلّم عليّ، فيروّعني منظر وجهه محمرّاً إثر ضربة على خدّه أو ارتطامٍ لا بدّ أن يكون قد تسبب له بألمٍ مبرح، ثمّ أدقّق للحظة قبل أن أسأله ماذا حصل.. "آه.. علم لبنان".
نعم، إنّه علم لبنان يا سادة. على خدِّ طفلٍ قادمٍ من المدرسة العلم المشوّه الذي انتقل بعضٌ من أرزته بحكّة إلى الأنف والجبين، وفي صورة على "يد" شابّةٍ في "سناب شات" مع تعليق "في القلب يا وطني"، وعلى صورة الغلاف في حسابِ شخصٍ ألهَبته مشاعر الوطنية.
ثمّ أُمسك بالهاتف متّصلةً بأحدهم، فتصدح سمّاعته بالنشيد الوطني.. تقول كلّهم للوطن. أبتسم. أحاول الإتصال بأحد آخر، النتيجة ذاتها. "وأخيراً طلع شي بإيد هالدّولة".. ولو كان قليلاً. يوم عطلةٍ رسميّة إضافي بمناسبة عيد الإستقلال لكونه صدفةً في عطلة نهاية الأسبوع، ورنّة هاتف تؤخر مكالمتك لِستّ كلمات. ابتسامتي لم تكن ذاتها ردةَ الفعل عند باقي مَن هُم للوطن. البعض أقفل هاتفه منفعلاً، "لمّا يصير عنّا وطن بنبقى نعملّو نشيد.. أنا مش ضدّ النشيد.. ضدّ المعنى المش موجود".
في المدارس اختلف رسمُ العَلَم. البعض يشكّلونه من كريات الورق المقوّى، وآخرون يضعونه تيجاناً على رؤوس الأطفال. وفي بعض الأحيان، يغدو الطفل بِتاج على شكل علم، وعلم مرسوم على خدّه، وآخر على يده إن أعجبته فكرة التلوين، إلى جانب عودٍ رفيع طويل يقبض عليه بيده طوال طريق العودة إلى المنزل. أيامَ كنّا أطفالاً، كان الإستقلال جميلاً. أن تدور في أروقة المدرسة في مسيرة العلم، تغنّي بصوت عالٍ فيضيع صوتك بين الصّفوف، وتضيع حصةٌ تعليميّة فتصبح "الطّلعة" الغير مشروعة إلى "ما بين الصفوف" في وقت الفسحة أمراً مفروضاً لَأمر لا يُفَوّت.
وفي مكان آخر من "الوطن"، كانت أيدٍ تُغمَس في الطلاء لِتُطبَع على قماشٍ أبيض، مُشكّلةً العلم، رمزَ الوطن، لأنّ سؤالاً يطرح نفسه في كلّ استقلال، وكأنّما يجيب عليه الشّاعر الكبير أحمد مطر فيقول:نموت كي يحيا الوطن، يحيا لمن ..؟!!من بعدنا يبقى التراب و العفن،نحـن الوطــــن
وبين رسم علمٍ بشموعٍ لراحة نفسِ من قضى في سبيل الوطن، وأخرى لِتُضيء برسمها علمَ وطنٍ تنطفئ مصابيحه عند أوّل "شتوة"، وتنقطع مياهه عند أوّل بزوغِ صباح صيف، يصطفّ آخرون ليكتبوا إسم "لبنان" بتكاتُفِهم..
كلّ أولئك قالوا "كلّنا للوطن"، تماماً كما قال من فضّل تشريف لبنان في عيد استقلاله بتحطيم رقم قياسيّ جديد، لتصبح "أكبر منقوشة زعتر" إنجازاً جديداً للبنان إلى جانب أكبر صحن حمّص وأكبر صحن تبّولة.
لكن يبقى السّؤال، هل حقاً "كلّهم للوطن" عندما لا يتفق أصحاب القرار على انتخاب رئيس "للوطن" فيبقى لبنان جسداً بلا رأس؟ وهل يكونون "للوطن" عندما يخطئون مراراً في اختيار ممثليهم، أم يصدق الفنّان جورج خبّاز عندما يغني لبنانَ ب " كلنا عالوطن ... كل واحد عندو علم"؟ وهل سيبقى للشّعب فرصة لِيُحبّ لبنان كما تقول السّيدة فيروز "بفقرك بحبك و بعزك بحبك"، أم سيموت جوعاً أو برداً قبل أن يستطيع التعبير له عن حبّه؟ثمّ هل سيستطيع أن يتناسى الطّائفية والمذهبية ليحبّ لبنان "بشماله وجنوبه وسهلِه" أم أنّه سيقتطع من وطنه قِطعاً قبل أن يبدأ بالحبّ؟!
22-11-2015
 •  0 comments  •  flag
Published on November 22, 2015 10:21

November 13, 2015

"هونيك ناس"




يوم كنت صغيرة، كانت أمي توبخني عندما أخطئ قائلة: لا تفعلي مثل "هونيك ناس"
وعندما كنت أتنصت عليها تكلم جارتنا، كانت تقول:"سمعت من هونيك ناس.." ثم تتبعها بمصيبة..
ثم حين كانت تقف أمام أبي ليتفقدا كم بقي لديهما من المال حتى نهاية الشهر، كانت هي تدعو ب"الله يسامح هونيك ناس" على الوظيفة التي "طارت من يد والدي" بسببهم..
أما هو.. فكان حين يعود من العمل غاضبا يتمتم ويشتم.. كنت أسأله ببراءة:"عمن تتحدث؟"، وكان يجيب قبل أن يجلس للغداء بتبرم:"هونيك ناس..""هونيك ناس" في مخيلتي كانوا يعيشون في قرية "سنافر ضخام"، إن لم أسمهم وحوشا.. وتلك القرية كانت تقع حسب تخيلاتي في مكان ما حول الطريق الطويلة المهجورة التي كنا نعبر لنصل إلى بيت جدي..
التلال العالية المحيطة به، كانت تخبئ بيوتهم بأغصان الأشجار.. كانت تداري خبثهم وكذبهم ووساختهم.. ف"هونيك ناس" لم يذكروا يوما على أنهم ذووا صفات حميدة.. بل بالعكس.. تجد سيرتهم عند كل فتنة أو ضغينة أو كره.. عند كل بخل أو شح أو خداع..
صورة واحد منهم كانت كفيلة بإقلاقي لتقلع عيناي عن النوم.. كيف لأحد أن يكون بهذا القبح؟ كيف يكون الله رحيما ثم يخلق هكذا مخلوقات، دون أن يكون لها شغل غير الإفساد؟
الليلة تذكرت قرية "هونيك ناس" حين مررت من الطريق المهجورة.. لم تعد مهجورة.. يسكنها الآن أناس لطفاء، غير أولئك المليئة قلوبهم بالغل.. ترتفع على التلال قصور، تقف بجانبها منازل متواضعة دون أن يختصم أصحابها كما في القرية التي عهدتها..لكن شيئا ما يحيرني.. هل احتل هؤلاء اللطفاء بيوت "هونيك ناس" فانتشروا في الأرض حتى بتنا نراهم بيننا دون أدنى حاجز؟ أم أن "هونيك ناس" كانوا بيننا طوال الوقت دون أن أدري؟ ...
أرجو أن لا يسوق الله كلامي هذا إلى أحدهم.. أرجو أن لا أعرف أحداً منهم.. فبعض الأشخاص، كما بعض الأشياء، من الأفضل أن لا يعرفوا!بقلم
فكرة

 •  0 comments  •  flag
Published on November 13, 2015 22:21

فارس







حين أسماني والدي فارس، لم يكن يمتلك حصاناً. لربما ودّ ذلك ولم تُسعفه الأقدار.. رمقته أمي حين سمعت الإسم أولاً.. لم تعجبها صورتي في خيالها، واقفاً على ناصية الحلبة وبيدي سيف يرتفع عن رأسي ذراعاً.. لاحقاً، لم تعجب أمي صورة "فارس" الولد الكرتوني في إحدى المجلات.. فهي لم تُرد لي أن أكبر لأصبغ شعري أصفراً وأسوّيه ك"أشواك القنفذ"، بالرغم من أنها كانت تريدني أن أكبر بشدة.
حين لم أكبر، لم تجد أمي اسما أغلى عليها من اسمي لتناديه.. ثم لامت أبي أن أسماني فارس... لو اختار غيره لربما اختلفت النهاية.. لربما كبرت.
 •  0 comments  •  flag
Published on November 13, 2015 22:20

October 2, 2015

رسالة واردة

العزيزة حنان، الكتابة إليك كتابة لنفسي .. ثرثرة في فضاء واسع، جريٌ في هضاب لا أسوار لها، غرفٌ من نبع مياه لا ينضب..
الحروف التي تصطف لك هنا لن تخذلك غداً.. تستغربين؟ بعض الحروف، نعم، تخذل.. وبعض الابتسامات تذبل.. وبعض الأمنيات تخيب. ولا يبقى بعد مضيّ الأيام إلا المشيب. أنت فقط من يحدد له نطاق التوسع، والخذلان يجعلك تفتحين الباب على مصراعيه له، فغضّي النظر عن الخسارات كما لو أنّها مجرّد حاجز يعدو حصانك سريعاً ليقفز عنه..
عزيزتي،
بحروف غير حادة الأطراف أكتب لك، وأنا أعلم أن بعض الأصوات تؤلم أكثر من الأسواط، لأقول لك إن رنين الضحكة يستطيع أن يخفي كل الألم. القليل من الوقت، والكثير من الرنين، فيختفي الألم.
حنان،
أكتب لك اسمك كي تقرأيه، فكما يُنادى الشخص بالاسم ليُعلَم بالمصائب، ينادى به ليُخبَر بأن هناك من يحبّه، وهناك من لا يأبه لهفواته، وهناك من لا يقف رقيباً على خطواته وسكناته.. لكِ كما لكل شخص من يقدّرك ولو عن بعد.. يفتقدك ولو لمصلحة.. يذكرك ولو عن طريق الخطأ.
تعلمين.. تمرّ كثيراً أمامي في الآونة الأخيرة حكم وأمثال تحفّز على تجاهل من لا يهتم بنا.. ولا أدري إن كنت سأقنعك بأن تتبعي هذه.. لأنّ شعور المودّة ذاك فطريّ لا يبذل لمقابل.. وبالتالي يصعب التخلي عنه حتى بعد الصدّ أو الردّ.. لكنني أجد من الأنسب أن أقول لك إن من لا يقابل مودّتك بمثلها خاسر. ليس لأنك حنان.. بل لأن الخسارة هي خسارة من يحبّنا ويهتم لأمرنا.. لا خسارة من نحب نحن.
اهتمّي بنفسك، وأبقي على أحلامك مدوّنةً بترتيب وانتظام.. كي لا تطيرها ريح الانتكاسات.. فالجوّ عاصفٌ.. جداً. صديقتك مقابل لا شيء،
المحبّة.
 •  0 comments  •  flag
Published on October 02, 2015 08:23

September 29, 2015

الخطة ب



الخُطَّة بقصة هجرة سوريّ إلى أوروباالأسلوب السّردي بتصرّف ل"حنان فرحات"((على أمل أن أكتب يوماً قصة العودة))___________________
هل فكّرتَ يوماً أنّك ستُضطَرُّ لخطّة بديلةٍ عن حياتك كلّها؟ كلّها بمعنى غطاء نومك، فرشاة أسنانك، رفوف مكتبتك، مرطبانات مونَتِك، بيتك، شارع حارتك، قريتك، وطنك، ثمّ تذهب بعيداً عن عائلتك؟ هل فكّرتَ أنّك قد تشارك في رحلة أدغالٍ كتلك التي تشاهدها في التلفاز؟ أن تسير في الحرّ والبرد؟ أن تحمل على أكتافك همّك وبعض الثياب فقط؟ أن تنزل في المياه فتتنفّس القليل من الحياة مع كثيرٍ من الموت؟ أنا لم أفعل.
لم أظنّ يوماً أنّني سأضطر لخلع حياتي، وارتداء أخرى. لم أظنّ أنني كممرضٍ سأكون الطبيبَ في غرفة عملياتٍ تحت سماء من القصف، وجدارٍ من الحصار.. ولا أنني سأكون المفتاح الوحيد لنجاة أناسٍ لا أعلم كيف أنجيهم، لكن لا خيار. لم أعلم أنّني سأحمل روحي على كفّي بعدها وأسير إلى بلادٍ لجوءاً.. كنّا نخطط للسياحة فيها.. لبلادٍ كان تحرس حدودَها عساكر.. أصبحوا وحوشاً.
أنا ماهر، صديقك، أكلّمك الآن من بلاد الغرب.. خمسة أيام في فرنسا، في بلاد لم تترك جهاز تصوير إلا صورتنا به، ولا وسيلة إعلام إلا عرضتنا عليها، حتى أصبحنا واجهة الصّحف وجدران مواقع التواصل الاجتماعي.. أكلّمك وعائلتي مرميٌّ أفرادها، كلّ واحد في ناحٍ. منذ خرجت من ريف دمشق وغربتي تزداد يوماً بعد يوم. إخوتي تشتّتوا بين بيروت والشام.. أخي الذي في بيروت لا يزال يعيل أختي والوالدة كما أخبرتك سابقاً.. نعم، وضعه صعب، لكنّه الأيسر.. لم أرهما قبل أن آتي إلى هنا، فقلبُ أمّي الواهن لا يحتمل مشقّة القدوم إليّ، وأنا لا أستطيع الوصول إليه.. وأختي قصّتها قصّة أخرى.. وجعُ قلبٍ آخر. من كان يظنّ أن كوكب الأرض يتّسع لشرذمةِ عائلةٍ، بهذه القسوة؟بهذا البعد؟
في الأول من آب، كنتُ قد اتخذتُ القرار الحاسم، سأتخذُ الطريقَ الذي يسلكُه الجميع. سأهاجر. ليس بالأمر السهل اتخاذ هكذا قرار. أن تراجع ذاتك ألف مرّة قبل أن تنفيَها، ثمّ تبرّر لنفسك أنّ كل شيء حولَكَ نفاها، إلّاك.. أن تحكم بالإعدام على كل ذكرى تمرّ في ذهنك، لأنّ مثلها لن يعود في الغد القريب.. أن تشرب فنجان قهوتك وأنت تعلم أنّ دفئه كاذب وأن صورة أمّك ما عادت تتلألأ فيه، أن تنظر إلى غيمة وأنت تعلم أنّ ظلّها وَهْم.. أنّها هي ذاتها التي تزخّ المطر عليك.. بهذا الكمّ من الخداع اتخذت القرار.بواسطة محامٍ، إستُصدِر جواز سفري واستلمته بعد ثمانية أيام. حجزتُ لي مكاناً في باخرة ستنطلق في العشرين من الشهر المذكور، لكن قبل يومين من موعد الرحلة، تبيّن لي أن جواز السفر يجب أن يكون مختوماً، ففاتني الحجز وفاتتني الرحلة. ولكن لم تكن هذه المشكلة أكثر من حصاة في طريقي.. فالحجارة آتية.. والصخور آتية.. وفي يدي إزميل ومطرقة.
عدّلتُ الخطّة منتقلاً من البحر إلى الجوّ، ولم أجد لي رحلةً قبل الثامن والعشرين.. ثمانية أيام أخرى.. لا يهمّ. المهمّ أن الخطة لا تزال تصلح للوصول.. أو لمحاولة الوصول. الحياة كلّها محطّات، وإن فاتك القطار، فنصفُ زمنٍ من الانتظار ليسَ كأسَ الموت. الموت هو أن تحاول إيقاف القطار والتلويح له لعلّه يتوقّف. أتعلم ما الموت؟ أن يدهسك.
الرحلة كانت من بيروت إلى ألانيا في تركيا، والتي تبعد حوالي ال 600 كيلومتر عن إزمير، هدفنا المرحليّ. موعد الطائرة كان منتصف الليل، التوقيت المفصليّ في كلّ ذكرى سعيدة: ميلاد أو زواج أو سنة جديدة.. ولكن الليل انتصف ولم نطِر.. التأخير عن ذاك لم يكن إلا تنويهاً بأنّ بداية الرحلة ليس سبباً للسعادة.. ليس خطاً فاصلاً لذكرى سعيدة.. ساعتان، وأصبحنا في الجوّ. أن تكون في صندوقٍ في الأعلى شيءٌ مختلفٌ.. مختلفٌ كلياً عن أن تنظر من تحت، فترى البراميل تطير.. هنا احتمال أن تقع فتموت ضئيل، هناك احتمال أن يقع فينفجر فتموت شبه مؤكد.
خلال ساعة، كنا على الأراضي التركية. بعجلةٍ غادرنا ألانيا مع عائلةٍ بسيارتهم، مئة وعشرون ليرة تركية كانت كافية ليوصلونا إلى أنطاليا. هناك ركبنا بحافلة متوجهة إلى إزمير مقابل خمسين دولاراً لي ولرفيقي سويةً.. رفيقي في هذه الرحلة ابن عمّي أبو النور.. وبالمناسبة.. حين تقرأ بقيّة القصّة، ستتنبّه إلى المبالغ التي دفعناها للتنقل وتناول الطعام.. أستطيع أن أراك تستغرب كيف لي أن أدفع كلّ ذاك وراتبي في لبنان مع راتب زوجتي لم يكن ليتجاوز الخمسمائة دولار.. صدّقني لو كان في جيبي كلّ ذاك ما هاجرت.. جيب أبي النّور كان أدفأ.
ستُّ ساعات من السير انتهت بوصولنا إلى وجهتنا؛ إزمير. بعشر ليرات تناولنا ما يسدّ رمقنا، ثمّ توجّهنا بعشر ليرات أخرى نحو مركز التهريب؛ مدينة باصماني. هناك التقينا بالمهرّبين مباشرة، واتفقنا على الخروج معهم منتصف الليل. راودني إحساسٌ غريب. منتصف الليل كان موعد الطائرة التي لم تقلع إلا بعد ساعتين، فهل سنبحر حقاً في هذا الموعد؟ أم سيكون إنذاراً آخراً للعودة؟
انتصف الليل. كنّا قد وصلنا إلى نقطة التهريب، لكنّ الشّرطة كشفت الموقع ما أدّى إلى فشل العملية. اضطررنا إلى النوم في الغابة عندها.. إنذارٌ ثانٍ، استوجب خطة بديلة.. لكلّ شيء خطة ب. استيقظنا صباحاً، وعدنا إلى باصماني بأربعين ليرة وبعدها بعشرة.. المهمّ أنّنا لم نيأس. نحن نعلم أن الرحلة خطرة منذ البداية. لا شيء مأمون العاقبة، ولا شيء مكفول النتيجة.
المحاولة الثانية كانت بتغيير المهرّب. اتفقنا مرة أخرى، لكن بجهدٍ أكبر، ونفقة أكبر. خرجنا في الثانية ظهراً في سيارات مقابل مئة ليرة لساعتين. وصلنا عند الرابعة تماماً، حيث نزلنا وتابعنا سيراً على الأٌقدام حتى منتصف الليل، متخللاً السيرَ لثمانِ ساعات استراحاتٌ بسيطة. منتصف الليل مجدداً، ذاك الذي كان موعداً للسهر والسّمر في الماضي، يكتب نفسه مجدداً في ذاكرتي بقسوة. لم نعد نشعر بأقدامنا المتورّمة.. ربّما لو شعرنا بها لكان الأمر مرعباً أكثر. على ظهري، الذي يكاد ينقسم، ثياب وبعض التمر والماء، وأمامي، أخيراً، البحر.
لمّا وصلنا، ارتدينا ثياب البحر. لكنّ منتصف الليل لم يكن مسالماً مرة أخرى. القارب المطاطي موجود، والهاربون موجودون، وفجأةً.. الشرطة موجودة. بدأ إطلاق النار العشوائيّ، وأحاط بنا الكثير من عناصر الشرطة.. كمشهدٍ في فيلم بوليسيّ، أسترجع تلك الليلة.. البعض أخذهُم يأسُهم من الواقع إلى القارب رغم كلّ ما يحصل.. والبعض أخذهُم تشبُّثهم بالحياة بعيداً عن المياه.. أما أنا فكنت ممن لا يزال فيهم رمق من الحياة.. بالرغم من توجّهي نحو البحر.ركضت أحتضن المياه. سبحتُ بكلّ ما أوتيت من عزم.. غرفتُ من الظلام والملوحة ما يكفي ليحفظ جثّتي إن عادت يوماً إلى البرّ... لكنّ أصوات الجاندرما التركية تناهت إلى مسامعي تناديني لأرجع.. وبين أن أذهب إلى بطن المحيط فيلتقفني خفر السواحل، أو أن أعود إليهم مع احتمال كذب وعودهم بعدم أذيتي إن عدت.. ضعُفتُ وعُدتُ. ومن حسن حظي أنّهم صدقوا. ابتلعَت المياه ثيابي وهاتفي المحمول، بينما اقتادني العناصر مع غيري إلى نقطة التفتيش. هناك نمت، أكلت، وأُعطيتُ نعالاً كوني حافياً، ثمّ وجّهوا لي إنذاراً أن لا أعيد الكرّة وأخلوا سبيلي. كان ذلك بمثابة عودة إلى الحياة..
إلى باصماني عدتُ ب خمس وعشرين ليرة، لكنّ أبا النور كان قد اختفى. أربع ساعاتٍ وأنا ألهث من فكرة الفقد، وألهث من قلّة الحياة. كنت آخذ إلى صدري مع الهواء كلّ ما قد يتبادر إلى الذهن من مخاوف ووساوس، إلى أن عاد. عاد بقدمين متورّمتين، وصحّة لا يبدو أنّه بقي له منها شيء.. وبالرغم من أنّ رؤيته واقفاً مجدداً كانت أشبه بمعجزة، إلا أنّها كانت الفرصة الأمثل للشعور باليأس سويّةً.. لم يكن هناك مجال للقيام بمحاولة ثالثة حينها، فقضينا تلك الليلة في المسجد. ثمّ في النهار التالي، قرّرنا أن نُكرِم أنفسنا.. كان علينا أن نأكل حتى لا نستطيع التنفس.. كان علينا أن نأكل ونتناسى.. ثلاثون ليرة قامت بالواجب.
هنا، خارت قواه، واستبدّ فيه الوهن. أبو النور ما عاد يريد الذهاب إلى حيث نريد. قلتُ له أنني سأذهب في كلّ الأحوال.. معه أو من دونه، سأذهب.. فلم يبقَ أمامه حلّ سوى الخضوع. اتفقنا مع مهرّب جديد، وانطلقنا مجدداً في الساعة الثامنة مساء إلى المكان المحدد، ووصلنا عند العاشرة. هناك أكملنا سيراً على الأقدام حتى الواحدة بعد منتصف الليل إلى أن وصلنا البحر، حيث كانت المفاجأة..
رفض أبو النور الركوب في القارب المطاطي. لمَ؟ لأنّه ببساطة مهترئ، غير صالح للاستخدام، وغير آمن. المهرّبون أصرّوا على أن نركب، وأبو النور أصرّ على موقفه، الأمر الذي جعلهم ينتظرون الدفعة الثانية التي قدِمت تمام الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، ليركبوا القارب.
تلك الليلة قضيناها في الغابة، وهم غادروا. نحن نمنا، وهم نامَ ستة عشر شخصاً منهم للأبد. جاء الخبر صباحاً، غرق المركب، وتمدّد الطّفل إيلان على الشاطئ وعلى الشاشات وفي الضمائر.. قدرةُ الله وحدها هي التي جعلته يأخذ مكاننا في القارب.. جعلتني أبقى على قيد الحياة لأروي لك قصّتي، وهو ينظر إلينا من السماء.. هو وخمسة عشر طيفاً لم يسأل عنهم أحد.. ربما لأنهم لم يتمددوا على الرمال بقميص أحمر مثله..كنا قد استيقظنا جائعين وعطِشين في كَنَف المهرّبين، وبقينا كذلك حتى الساعة السادسة مساءً، حين أحضروا لنا الماء والطعام. كلّمنا بعدها كبيرَهم، كبير المافيا التي تتولى عملية تهريبنا. عندها اكتشفنا أنه مصري، وأن الذي يعملون تحت إمرته أتراك. أحضروا قارباً جديداً وقبطاناً جديداً، كأنّ شيئاً لم يحصل في الأمس، ثمّ عند منتصف الليل كما في كلّ نكبة أصابتنا، ركبنا فيه. كنا نبعدُ مسافةَ خمسين كيلومتراً عن الجزيرة اليونانية بطريق مباشرة، إلا أن الأمر احتاج إلى أن نعدّل المسار حتى لا نُكشَف، فازدادت المسافة خمس عشرة كيلومتراً.
بعد أربع ساعات في عرض البحر، بانت لنا أضواء الجزيرة اليونانية سامس. ظننا لوهلةٍ أن خروجنا من المياه أصبح وشيكاً، فالتقفتنا دوّاماتٌ ثبّتتنا في مكاننا، ومنعتنا من الحراك.. بدا لنا أنّ النهاية وحدها أًصبحت وشيكةً، وأن لا خروج من المياه بسلام. كبّلنا اليأس، وكاد القبطان أن يفقد الأمل.. كان الحلّ الوحيد أن يشغل نظام تحديد المواقع عبر الأقمار الاصطناعية. نحن في المياه التركية. الرّعب سيطر على الرّكاب. الموت حامَ حولنا يحتار بمن يبدأ، والأنفس هرعت تستنجد بخفر السواحل اليوناني. قالوا أنهم سيأتون، ولم يأتوا. علموا أننا سنموت، وتركونا لنفعلَ ذلك بهدوء. ثوب الليل طويل.
لطفُ الله سكّن جَلَبة المياه، وجعلها سلاماً علينا.. أربع ساعات أخرى ووصلنا إلى إلى سامس. الساعة السابعة وخمس وأربعون دقيقة، توقيت لا أظنّ أنني قد أنساه يوماً.
إستلّيتُ سِكّيني، وخرقتُ القارب. لم أُرِد أن أعود بأمرٍ من خفر السواحل اليونانية.. لم أُرِد أن أعود بأيّ حال.على الشاطئ امتدّت أَكُفٌّ للمساعدة، وأعناقٌ للمراقبة والاستجواب، وعدساتٌ لتوثيق لحظات المعونة. على الشاطئ تجلّت إنسانيّة الغرب، وكَرَمُه الذي غاب حين كنّا في عرض البحر تحت ستار الظلام. النّور وحده آمنٌ هناك، تحت مجهر الإعلام. لا يهمّ. مجدداً لا يهمّ. المهم أننا وصلنا سامس أخيراً. هناك، أخذنا إذناً بالإقامة في اليونان مدة ثلاثين يوماً.
بباخرةٍ مدةَ سبع ساعات، توجّهنا من سامس إلى أثينا مقابل مئة يورو، ثمّ بمئة أخرى استقلّينا حافلةً إلى حدود مقدونيا. خمس ساعات من السير أوصلتنا إلى صفِّ مهاجرين يسبقونني وابن عمّي بثلاثة أيام من الانتظار، ولم يكن في جعبتنا المزيد من الصبر. الخطوة التالية كانت الاستعانة بالأقمار الاصطناعية لعبور الغابة. سرنا ثلاث ساعات متتالية، إلى أن وصلنا سكة القطار، لكن القطار لم يكن موجوداً. خيبةٌ أخرى. لا يهمّ. نركلُ خيباتنا ونمضي قدماً.
ثلاثةً، أنا وابن عمي وصديقٌ، ركبنا سيارة أجرة بمئة يورو إلى مكان آخر على الحدود، انطلقنا منه سيراً إلى حدود بلادٍ أخرى. هذه المرة، أربع ساعات إلى صربيا حيث الأمور أصبحت أسهل قليلاً. مئة يورو أخرى لسيارة أجرة مخالفة تتكفّل بأمور الشرطة وغيرهم، أوصلتنا إلى حدود هنغاريا. لم أظنّ يوماً أنني سأطأ بقدميّ هذه البلاد كلها..بهذه السرعة!
الملل والتعب والإرهاق واليأس، مشاعر تختلط عليّ فلا أدري بم أحسّ أولاً.. وصلنا صباحاً، وبدأ السير مجدداً إلى أن أصبحت الشرطة الهنغارية أمامنا، ولا مفرّ من أخذ بصماتنا. بدا الأمر خطيراً... الشرطة في كل مكان.. سيارات.. طائرات.. أجهزة تصوير.. حالة استنفار شاملة.. باختصار، نحتاج خطة بديلة... خطة ب.
تعرّفنا على شخص صربيّ قال إنه يستطيع أن يساعدنا، فسِرنا بإمرته. ساعتان كانتا كفيلتين بخروجه يائساً من ساحتنا، وتوجيهنا إلى صفوف المهاجرين غير الشرعيين لأخذ البصمات. الطريق مسدودةٌ لا محالة، ولا خطة بديلة في الأفق. سرنا مع السائرين وأيدينا مرة تتقدمُنا وأخرى تختبئ خلف ظهورنا لا تريد الانصياع. وبينما هي تترنّح بين الرفض والقبول، ظهر لنا من بعيد بستان ذرةٍ يتوسط الشرطة الصّربية والهنغارية، يفصلنا عنه خندق. كان ذلك طيفاً خلّاباً لخطة جديدة، فارتمينا في أحضانه.
دخلتُ وأبا النور الخندق. طبعاً ليس الأمر بهذه البساطة.. كانت حجّتي لدخوله قضاء حاجةٍ، ثمّ تبعني أبو النور بعد هنيهة وامتدّت بنا الحاجة حتى وصلنا البستان حوالي الساعة الثالثة من بعد الظهر. هناك نمنا حتى المساء، ثمّ استيقظنا لنسير في ربوع البساتين، نقفز ونركض من واحد لآخر.
في أحد البساتين هناك قررنا أخذ قيلولة أيقَظَنا منها صوت غريب لم نظنّه صادراً من غير الشرطة. قليلٌ من الوقت وتوضحت الأمور. أمّ وابنتان عشرينيتان بجنسية نمساوية لا يردن أن يبصمن في هنغاريا لأن زوجها ما زال في النمسا. إحدى الفتاتان تتكلم الألمانية بطلاقة، فاستلمت موضوع الشرطة الهنغارية كونهم يتكلمون الألمانية، ثم هربنا سوية في البساتين حتى وصلنا قرية اسمها سجد. هناك افترقنا نبحث عن سيارات أجرة، وتابعتُ مع أبي النور الطريق إلى بودابست. الساعة العاشرة مساءً كنّا أمام فندق كراكاش. دفعنا للسائق مستحقاته وهممنا بالدخول إلى الفندق فوجدناه مغلقاً.. ولسوء الحظ، أو لحسنه لا أدري، بعد البحث والتدقيق، كان الجواب أنّ الفندق مغلق بالشمع الأحمر بتهمة تهريب السوريين!
تُهنا في بودابست العاصمة.. لا تسأل عن الإرهاق والتعب.. سيرٌ مرة أخرى بعد الركض أميالاً لا تُحصى.. وضياعٌ بعد أن ظننا الوصول... بجهدٍ وجدنا حافلةً أقلّتنا إلى محطة القطار.. وهذه المرة وجدنا القطار.. بدّلنا ثيابنا هناك وحسَّنّا من هيأتنا لنبدو من أهل البلاد، ثمّ تسللنا إلى القطار من غير قطع تذاكر. كما لو أننا في سباقٍ مع الشرطة قضينا كلّ لحظة على متن القطار، ونحن موقنان أنّ من كان معنا في بداية مشوارنا لا يزال على عتبات بلاد بعيدة.. قطار الحياة توقّف لنا أخيراً.
بعد ساعة من انطلاق القطار، طُلبت التذاكر. ومن محاسن الصدف، أنّ رجلاً أمامنا كان قد قطع تذاكر لسبعة أشخاص، فظنّنا المفتّش منهم ولم يتوجّه بكلمة إلينا..! غادر القطار هنغاريا، ثمّ النّمسا.. وبعد أن أًصبحنا في ميونيخ في ألمانيا، إذ بأبي النور يوقظني لأكلّم المفتش.. قال لي: أين تذاكركما؟ فأجبته وأنا أضحك: تذاكرنا من سوريا.. لا تذاكر.. "الله يطعمك الحجّ والناس راجعة.."!
نزلنا في ألمانيا، واصطحبتنا الشرطة إلى تجمّع للفحص الطبي حيث أخذنا أغراضنا معنا، وتناولنا طعامنا، ثمّ أخذونا إلى تجمّع آخر حيث اغتسلنا وأكلنا مرة أخرى مع عدد لا تصدّق كثرته من المهاجرين.. وبينما نحن نتجوّل بين الناس، إذ رأينا طاولة غريبة.. سألنا عنهم، قيل إنهم وفد فرنسيّ برفقته ثلاث حافلات. عرض مجاني: إقامة دائمة، جنسية بعد أربع سنوات بالإضافة إلى السكن. كأنّما ساقنا القدر إليهم، سجّلنا إسمَينا مباشرة، وانطلقنا –صدف�- منتصف الليل. هذه المرّة جاء التوقيت بخير!
الواحدة ظهراً وصلنا باريس.
لا تسأل عن الإعلام، لا تسأل عن ومضات أجهزة التصوير التي تأتيك على غفلة.. لا تسأل عن الصحافيين والمقابلات واللقاءات.. تركتُ كلّ ذلك لأبي النّور وفضّلت البقاء بعيداً. تخيّل أنّنا هنا في باريس منذ خمسة أيام، وما زلنا نعاني من ضعف في الاتصال بشبكة الانترنت..! لكنهم قالوا أنّهم سيوصلون الشبكة غداً.. أوافيكَ يا صديقي بباقي التفاصيل حين يقومون بذلك.ابقَ بخير إلى ذلك الحين.
ماهر- باريس 2015
 •  0 comments  •  flag
Published on September 29, 2015 09:32